ثقافة

“فيل رامبرنت” الرمزية الفنية كوثيقة تاريخية

من الجهة النظرية والعملية، تعتبر الأعمال الفنية على اختلاف أنواعها،وثائق نابضة بالحقيقة الظاهرة بشكل غير مباشر أحيانا وأحيانا بشكل مباشر في العمل نفسه، هي من تؤرخ بشكل فعلي وصادق للحقبة التاريخية التي ظهرت فيها، إذ تلقي الضوء على وعي المجتمع وعلى توجهاته وأفكاره وما يعتمل بين أفراده، وأغلب الوثائق التاريخية التي أرّخت للعديد من الحقب التاريخية والحياة الاجتماعية والنظم الفكرية فيها، ما هي في الحقيقة إلا أعمال فنية من شعرٍ ورواية وموسيقى ومسرح ورسومات ولوحات وصور وأفلام، لا زالت حتى اللحظة من أهم الوثائق التاريخية عند الباحثين العلميين، الذين يجدون في هذه الأعمال، مالم يجدوه مسطورا بين الكتب، والسبب معروف.
هذا ما ستفعله أيضا لوحة من القرن السابع عشر للفنان الهولندي “رامبرنت”1606-1696، يسلط من خلالها ضوءا قويا على تفكير مجتمعه في ذلك الوقت، وعلى الوعي الجمعي للرجل الأبيض، والذي لم يتغير كثيرا الآن إلا في الناحية الشكلية فقط هذه الأيام، فما زالت همجيته ورغبته في سرقة جهد الآخرين وتعبهم ونتاجهم، مستمرة حتى اللحظة، وها هي جغرافيا العالم العربي، تشهد على هذه الهمجية بأسوأ أشكالها.
في هذه اللوحة التي رسمها رامبرانت عام 1637. لم يستخدم ألواناً كعادته، ولكنه ظل ممسكا بزمام الضوء يوزعه كيفما يشاء، لتظهر رسمته مشعة كمعظم لوحاته الأخرى رغم رسمه لها بالفحم.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا اختار “رامبرنت” الفيل لرسمه وجعله في واحدة من اللوحات التي ستكون دليلا فنيا على طبيعة الحياة الاجتماعية في أوروبا عموما في ذلك الوقت، وكيف تعاملت مع باقي الشعوب والأعراق والقوميات؟ والجواب طبعا في اللوحة ذاتها، حيث تعيش معظم الفيلة في أفريقيا وجنوب شرق آسيا وشبه القارة الهندية، أي أنها حيوانات عالم “ثالثية”– إن صح الوصف-تعاني كما يعاني أبناء هذه المناطق من الاضطهاد والعبودية والتنكيل بكافة اشكاله، وللفيل في الرسمة نظرةُ غريبٍ في أرضٍ غريبة، فهو فيل نقله الهولنديون من وطنه إلى أمستردام كأسير، وهذه النظرة التي تركها “رامبرنت” كسيرة وحزينة على وجه الفيل، تعبر عن حزنه لتركه موطنه والمجيء إلى حيث لا يتم تقدير القيمة الحقيقة لهذا الحيوان، الذي تعتبره البلاد التي يحيا فيها، من أهم رموزها وأيضا من آلاتها العاملة، إن كان في عمليات النقل بأنواعها، وأيضا كوسيلة نقل شخصية في تلك البراري والسهوب المفتوحة على مالانهاية.
عند التدقيق في ملامح الفيل، نجده لا يُبالي بمن حوله، ويحرك خرطومه بملل في انتظار مجموعة من وحوش الغاب تهاجمه، وكأنه يشتاق لهجماتها بدلاً من نظرات هؤلاء “المتحضرين” حوله، ومثل خطوط الكفّ عند الإنسان، يمكننا معرفة ماضي ومستقبل الفيل وموطنه في أفريقيا أو آسيا من خلال خطوط جلده السميك.
كما يمكننا ملاحظة أن الرسمة تشبه الصورة الفوتوغرافية المأخوذة بكاميرا احترافية، حيث التركيز فيها على الفيل، بينما يظهر الناس حوله غير واضحي المعالم،وكأنهم في اللوحة فقط ليشكلوا خلفيةً لهذا الفيل، أي يمكن الاستغناء عنهم.
كان الهولنديون قد بدأوا يسيطرون على مناطق أفريقيّة عديدة، حيث بدأ عصر الاستعمار في ذلك الوقت، وكانوا يُحضرون الكائنات الافريقية ومنهم البشر بعد أن يقوموا بشن حروبهم على تلك البلاد ونهبها، كي يعرضوها للناس في عروض المسوخ، لقاء مقابل مالي، وظهرتْ في ذلك الوقت مصطلحات من قبيل (وصاية –انتداب-حماية-تمدين) يسبغها المستعمر الطامع على الأراضي الّتي يحتلّها كي يسرقها ويُبقي ضميره المتنور مرتاحاً،حتى أن الامر وصل ببعضهم إلى نظم قصائد عنصرية مقيتة على غرار قصيدة “عبء الرجل الأبيض” ل “روديارد كيبلينغ” والّتي يقول فيها أن واجب الرجل الأبيض هو احتلال هذه المناطق كي يُخرج أهلها الهمج من الظلمات إلى النور.
مرة أخرى سيعود فيل آخر للظهور في القرن العشرين وفي الثلاثينيات منه، من خلال قصص مصورة فرنسية من تأليف “جان دي برينوف” واسم الفيل كان “بابار”، عرفه الكثير منا عن طريق الكارتون الشهير، الذي يحمل اسمه “بابار” وتظهر في العمل الفني أيضا، رائحة العنصرية ومفهوم “عبء الرجل الأبيض”، حيث يأتي هذا الفيل الهمجي إلى أوروبا فقيراً جاهلاً لا يرتدي شيئاً بعد أن قتل الصيادون الأوربيون أمَّه وأخذوه معهم إلى أوروبا حيث الحضارة، وحيث يقوم الأوروبيون هناك–الذين قتلوا أمه- بإلباسه وتعليمه وتثقيفه وجعله يتصرف كبشري متحضر بعد أن كان همجياً في حُضن أمّه!
ظهرت هذه النزعات الاستعمارية الخبيثة خلال القرون الثلاثة الماضية وظهرت معها تبريراتها الّتي تجعل ضمير “الرجل الأبيض” مرتاحاً حتى لو ارتكب مجازر وأهوالاً لا يقبل أن يرتكبها غيره، فهو يفعل هذا في سبيل نشر النور والحضارة كما يدعي، ويبدو من خلال وسم الفيل بالهمجية، أن الوعي الجمعي الأوروبي لم ينس فيل “هنيبعل” بعد.
العبرة مما سبق هو التأكيد مرة أخرى على أهمية الفن بأنواعه، في كونه وثيقة تاريخية لا تقبل الدحض، عن الأحوال الاجتماعية والسياسية والفكرية السائدة في مجتمع ما، هذا مثلا ما فعلته القصيدة العربية، وأيضا الأغنية الملتزمة، والرواية الحقيقية والقصة القصيرة، وإن كان التعبير عن هذه الأحوال بشكل غير مباشر وغير مقصود أحيانا، فالسبب في كون الفكرة الأهم عند الفنان هو إظهاره في عمله ما يمكن تسميته: بالمعنى القريب والمعنى البعيد، فهناك ما يلتقطه البصر ولا تلتقطه البصيرة في اللوحة مثلا، كما يوجد أيضا من يلتقط المعنيان، إضافة إلى وجود من لا يجد أي معنى سواء كان قريبا او بعيدا!.
ليس من قبيل المتعة أو المصادفة أو العبث، التأكيد بشكل دوري على أهمية الفنون لا من جهة متعوية فقط، بل من جهة توثيقية وتعريفية غير قابلة للتزوير، كما يحصل عادة مع كتابة تاريخ مرحلة زمنية ما لحضارة أو دولة ما، حيث الكاتب يستطيع أن يكذب كما يشاء، لكن العمل الفني يبقى صادقا وعصيا على التزوير.
تمّام علي بركات