ثقافة

شخصيات روائية جداً

تمّام علي بركات
بينما معتوه “فوكنر” يستمع إلى أقدام سطح بيته الذي يمشي، وواحدة من غانيات ماركيز تنام واقفة على ساقيها على الشرفة التي وقع نصفها، وفي الوقت الذي يجلس فيه السيد إليوشا على كرسي مرتجل من علبة معدنية مغطاة ببطانية قديمة، يتأمل بوقار بالغ، صورة من الحجم الصغير لصبية جميلة وطفل لطيف يجلس في حضنها متكئة على حافة سرير معدني، و”باولا” غادرت غيبوبتها وتشطف الدرج وهي في كامل أناقة موتها في هذا الوقت الملتهب من الحرارة.
في هذا الوقت تماما كان يتمتم بينه وبين نفسه بينما رأسه مستندا إلى الجدار “يا سفر الغربة” ثم يبتسم لاشعوريا لصورة عبرت في خياله فأفرحته ولكن بصمت مطبق، فالوهم كان حاضرا أيضا، يمكر على الذكرى ومن تحت الوقت يمد له لسانه، ينتبه لنفسه، إنه الآن هنا، وما يجول في خاطره ليس إلا هذيانا لشخص مرهق وبلا طعام منذ يومين.
الحرب أيضا تبدو وكأنها في إجازة ساعية من هذا الحر الخانق حتى في هذا الوقت المتأخر من الليل، وصوت أعمال حفر يصله وكأنه صدى لوجع قديم، إنه يعرف هذا الصوت ويعرف ما طبيعة هذا الحفر الذي يسمعه وهو يدّب منه، “يا له من يوم مناسب للموت” قال لنفسه، ثم عاد وتمدد على السرير المعدني، متجنبا ما استطاع أن يصدر أي ضجة، وما إن أغمض عينيه للحظة بعد ساعات انتظار مرهقة حتى للحجر، كما أنها لا تقاس بمدى زمنها، بقدر ما تقاس بثقلها “السيزيفي”، وما إن شردت عيناه مع النسمة الأولى للنوم الذي لم يذقه منذ 48 ساعة، حتى عادت إليه تلك الشخصيات التي كانت في يوم مضى تملأ بيته بحيث لا مكان يتسع لجلوس أي ضيف طارئ في رواية جديدة، كانت تظهر له تباعا وتدنو منه بألفة ومودة وكأنها أيضا تعرفه، ها هو السيد “إليوشا” يجلس ربما على ذات الكرسي الذي جلس عليه في بيت الطفل المريض الذي قتله حزنه، وها هي المراهقة النائمة على السرير في غرفة انتظار الحب السريع، تستيقظ من نومها الذي طال ثم تنظر إليه وهي في طريقها لتشرب كوب ماء، وكأنه من الطبيعي أن يكون موجودا هو في عالمها الروائي المتخيل، وفي الوقت الذي سمع فيه خطوات “باولا” تجيء صوبه من غيبوبتها، انتبه من غفوته على صوت الحفر يرتفع أعلى فأعلى، كان قد نام ما يقارب الثلاثين دقيقة.
أشعل سيجارة أخرى من نار السيجارة التي شارفت على الانتهاء، ووضعها بين راحتيه كي لا تظهر نار احتراقها فتكشف مكانه، وبينما نظراته تجول في المكان، وقعت بوجل بداية على الجثة الهامدة الممددة أمامه، كان ينظر إليها وكأنه يراها للمرة الأولى، دنا منها وجلس إلى جانبها، أشعل سيجارة ثانية وضعها بين شفتي الرجل الممدد أمامه بلا حراك، ثم راح يحدثه بنوع من العتب: نعم لقد وعدتك أن لا أتخلى عنك كما وعدتني، لكني ظننت أنك أنت من سيعتني بي ميتا، لا أنا، تعال الآن واصعد على ظهري، لدينا طريق طويل، وضع الجثمان على ظهره، وجعل البندقيتين تتدليان من رقبته كأنهما قلادتان عملاقتان، ثم راح يعبر “الطلاقيات” الموجودة في المكان، ورفيقه غاف كطفل على ظهره، قلت لك لن أعود دونك، فدعك من هذا الهراء الذي تريدني أن افعله، وتمسك جيدا، ثم حاذر لكلامك فلدينا رفقة في المكان.