ثقافة

“هن” بين المباشرة الخطابية وغياب الخطة الإخراجية

خمس سيدات اعتلين خشبة مسرح “أبو خليل القباني” ليدلين بدلوهن، بما فعلت بهن الحرب، إنها جلسة عزاء مفتوحة بين الجمهور وخمس نسوة، يتناولن فيها عوضا عن فناجين القهوة المُرة، كؤوس اللوعة والقهر،خمس نساء سوريات وقفن في الظاهر كما وقفت “ضباع” ووصفت حرب “البسوس” بأنها كلها ضدها، بعد أن فقدت زوجها وأبنائها وأخوتها-اللقطة الذكية للراحل “ممدوح عدوان في قراءته سيرة الزير سالم” كحال “ضباع” واشد قسوة، وقفن النسوة ليروين وجع الحرب الذي حطّ في دواخلهن كشبح، واستقر كحجر ثقيل في أرواحهن وعوالمهن التي تغيرت وإلى الأبد، وكأن هذه الحرب هي ضدهن بالمقام الأول، حيث ما من امرأة سورية إلا وفجعتها هذه الحرب، إما بأبناء تحت التراب، أو زوج مفقود، وأخوة لم يعودوا، ما من سوريّة إلا وضاع لها حلما وأمنية، رغبة في الحياة، وأنوثة مترسبة في قعر الكأس لا تكاد تلحظ، إنها خسارات ليست باهظة فقط، بل إنها أيضا مفرطة في القسوة، سخية في وجعها الطازج والمتجدد.
هذا ما سعت “آنا عكاش” لقوله في عرضها المسرحي الأخير “هن”الذي جاء بتوقيعها نصا وإخراجا، وبرعاية وزارة الثقافة- مديرية المسارح والموسيقا، وهذا ما ستشرع خمس سيدات بالخوض بتفاصيله في العمل المسرحي الآنف الذكر، الذي لم يكتفِ بالعناصر “السينواغرافية” الضرورية، والتي لا يحتمل العرض بنصه المفتوح والمتواتر، أي زيادة عليها، كونها ستساهم في تشتيت ذهن الجمهور-المستمع بلا شغب- لكلام مكرر وباهت سمعه كثيرا في السنوات السبع المنصرمة، حتى صار جزءاً من الحياة اليومية والشخصية أيضا، لأي من الحضور، الذي جلس في العتمة هامدا وهو يستمع إلى مناحات سردية فجائعية واحدة تقريبا، لكنها بأصوات مختلفة، حيث سينتقل الكلام من الحالة الجماعية المباشرة أو الطقسية إن صح الوصف، إلى الحالة الخاصة لكل واحدة من السيدات المتشحات بالسواد، وكأنهن خارجات من لوحة ل “لؤي كيالي”، هذا كله يحصل وفي الخلفية شاشة تعرض صورا رمزية وواقعية من يوميات الحرب، متقاطعة مع آيات قرآنية لزيادة التشويش على الفكرة المبهمة التي حاولت المخرجة والمؤلفة تظهيرها وفق عدة رؤى  أو مدارس مسرحية، بينما الحركة التي يمشي فيها العرض تبدو بإيقاع واحد أو وحيد، فلا ذروات درامية مسرحية تشد المتفرج عادة استطاعت أن تفعل هذا، وما من أشغال مسرحية متنوعة إن كان في الشكل أو في تبادل الحوار، الذي جاء ركيكا ومباشرا، ما أثر بطبيعة الحال على الأداء، فالمناخ العام للشخصيات هو واحد تقريبا، متشابه جدا في شكله، لكنه في الواقع ليس كذلك في أثره على جوانيات الشخصية كما يفترض، فلكل شخصية طريقتها في عرض انفعالاتها وتعبيرها عنها، لكن هذا لم يحصل، وكان بالإمكان تخفيض العدد من خمس شخصيات إلى ثلاث يقدمن الحكاية دون أن ينتقص هذا من أي قيمة للحكاية، عدا عن كون”آنا” ستكون  قادرة على إدارتهن مسرحيا، على الأقل من ناحية الأداء التمثيلي، الذي جاء كما ذكرنا سابقا متشابها وكأنه نوتة واحدة تعزف قرابة الساعة، أو رتم واحد يستمر كل زمن العرض، دون أن تقدر كل من “إيمان عودة، إنعام الدبس، رشا الزغبي، لبابة صقر، جوليت خوري” بطلات العرض على تقديمه بشكل أفضل، وذلك لركاكة النص، وخروجه عن السياق الطبيعي للعرض المسرحي، فلا بداية واضحة ولا نهاية معلنة، عدا عن الغياب التام للذروات الدرامية، الذي سينعكس غيابها في الحكاية، على غياب أو شبه غياب للانفعالات المسرحية بطبيعتها المختلفة عند الممثلات، ولو قامت أي واحدة منهن بتقديم دور الأخرى، لما تغير الحال أيضا في المزاج العام للعرض،حيث يبدو أن خيار “آنا” بإخراج العرض، لم يكن صائبا، وجاء سلبيا على النص الذي اشتغلته وفق رؤيتها الإخراجية لحال الشخصيات وطبيعة الأداء وشكل العرض وهي تكتب العمل، فالجهد المبذول بين كتابة النص وبين رؤية المخرجة لكيفية تقديم العمل المسرحي على الخشبة، ضاع إلا أقله في تقديم عرض مسرحي مهم حسب فكرته المهمة.
“هن” لم يكن عرضا مسرحيا على مستوى الوعد الذي توحي به الكلمة على الأقل! الكلمة التي اتخذتها “آنا” بإيحائها المتعدد المعاني والدلالات، عنوانا لعرضها المسرحي هذا الموسم،فأول ما يخطر في البال عند السامع أو القارئ عندما ترن كلمة “هن” سواء في الهواء أو على الورق، أنه أمام حفيف رهيف، بغض النظر إن كان حفيفا حزينا أو فرحا، -حفيف ثوب العروس، غير حفيف ثوب الأرملة-،حفيف غاضب أو حفيف منكفئ إلى دواخله، إلا أن هذا “الحفيف” برمزيته ومعناه الأنثوي لم يحضر بحالته المتألقة، بل جاء خجولا وشبه غائب عن الوعي أحيانا، وهذا ينافي طبيعة المرأة أساسا، التي يمكن لها أن تطبخ طوال الليل حجارة في ماء يغلي، وصغارها مقتنعون بأنها ستطعمهم بعد جوع، هذا حفيفها، هذا ألقها الذي لا يخفت بريقه مهما كان حالها، ومستغرب من كاتبة حساسة ك “آنا عكاش” أن لا تنتبه لهذه النقطة بالتحديد، فهي من كان سيعوض ضعف النص، برفع قيمة الأداء وتنويعه، لكن هذا للأسف لم يحدث!!.

تمّام علي بركات