ثقافة

شرائط ملونة

إلى جانب الأرجوحة التي جلس فيها صبي في العاشرة تقريبا من عمره، وقفت تلك الفتاة الصغيرة صاحبة الفستان الأصفر والجديلة التي تبدو وكأنها بلا روح تنام على ظهرها، وقفت بلا أدنى حركة أو نأمة صدرت عنها، منتظرة دورها لتركب الأرجوحة، وهي منذ أمد طويل واقفة على حالها وكأن قدميها مثبتتان بالأرض، وجسدها الغض تخشّب تماما كما ملامحها الساكنة.

الأطفال الذين يتجمعون حول الأرجوحة كل إما مع أمه أو أبيه وربما أحد الأخوة الكبار، ينتظرون دورهم، والدور لم يكن منتظما لركوب الأرجوحة، وإلا لكانت صغيرتنا صاحبة الفستان الأصفر، ركبت فيها منذ أيام وأيام، بعد أن انتظرت بلا أمل يداً تحملها وتضعها فيها، قبل أن تهزها وتطّيرها هي وجديلتها، لكن هذا لم يحدث، الأيدي تتخاطف حبال الأرجوحة التي كادت تتمزق، وكأن القلوب التي حولها مات فيها الحنان، فهي تقف وحيدة وما من أب أو أم يسعيان كما باقي الأهل لوضعها في أرجوحتها المشتهاة ولو للحظات فقط، أو لعلها لطيلة الوقوف صارت غير مرئية، لا أحد يلاحظ وجودها.

كانت الأمهات ما أن ينزل طفل من الأرجوحة، حتى يهجمن وكل واحدة بيدها ابنها تريد أن تضعه فيها، وأحيانا كان الخلاف يحتد حتى بين رجل أرعن وامرأة مزعجة، تركت ابنها في الأرجوحة دون أن تعير انتباها للأطفال المتجمهرين في المكان، ومنهم الطفلة صاحبة الفستان الأصفر والجديلة التي لم تُفرد منذ وقت طويل كما يظهر من تشعثها.

أم الطفلة لم تكن بالبعيدة عنها، لكنها كانت كمن تُرك على هذا المقعد منذ طوفان نوح، إنها ليست في هذا العالم مذ مرّ عليها خبر أخيها أولا ثم زوجها، ليتضح فيما بعد أن الطفلة التي لم تتجاوز العاشرة، هي من تأخذ أمها إلى الحديقة لتسليها، وتدع الهواء النقي يدخل إلى جسمها، كي تبقى معها حتى لو كان وعيها عالقا في زمن آخر يرفض التقدم ولو خطوة واحدة باتجاه الواقع.

يوما ما جاءت هذه الطفلة مع والدها إلى هذه الحديقة، حين إذ كان هناك من يستطيع أن يضعها في الأرجوحة، ويهزها حيث تطير وتضحك لها السماء والأشجار وألوان جوربها الطفولي، فوق، تحت، فوق: شرائط ملونة وضحكات عالية الرفيف. تحت: رؤوس أشجار مرحة، شوارع مائلة وبوالين طائرة بين المقاعد والأرجل المتقافزة كي لا تدهسها “وغزلة بنات” يضحك فيها السكر، ياه للفرح الذي كان.

عادت الطفلة إلى أمها الجالسة كدمية هرمة على العشب، وضعت رأسها فوق ساقيها وراحت الأم تهزهما قليلا والفتاة تبتسم بقسوة، هاهي تركب الأرجوحة ووالدها يطّيرها بين الحلم والسماء، وما على الأطفال الذين ينظرون إليها وهي تهب كالفراشة، إلا انتظارها حتى تنتهي من طيرانها العالي، حيث الله يسكن خلف تلك الزرقة، وما عليها إلا أن ترتفع “بدفشة” أقوى لتراه.

تمّام علي بركات