ثقافة

ثقافة الحوار والانفتاح على الآخر

في عصرنا الذي نعيش.. حيث تفشّت ثقافة القتل وإلغاء الآخر، وامتلأت الصدور والدروب بنواتج ومخلّفات التطرف الديني والتمييز العرقي والتباغض القومي، فخيّمت بذلك الفوضى الخلّاقة التي أرادها وخطط لها أمريكا وإسرائيل، وقام بتنفيذها طوابير من الجهلة والمغرّرين، وموّلها ممالك ودويلات لم تلتفت أنّها ستكتوي وتحترق عاجلاً أم آجلاً، بنار قد أوقدتها، وفتن قد أيقظتها.
في عصرنا الذي نعيش..عصر الخرف العربي الذي لم يعد أشهراً في عام واحد، بل امتد إلى سنوات في عقد واحد، قابله ربيع مزهر تعيشه إسرائيل، وتشهد فيه على محيطها القريب والبعيد، تزعزعاً في النفوس قبل الجيوش، وسقوطاً للقيم والتراث قبل الحصون والقلاع.
هكذا.. أصبحنا بحاجة ماسّة إلى تعزيز الوعي وإلى عمل وجهد دؤوب غايته صناعة الإنسان العاقل المنفتح المتوازن الذي يعي كيف يتعايش مع الآخرين تحت سقف الوطن، وذلك من خلال تكريس لغة التواصل والحوار، والسير في درب التكامل والانفتاح، فالإنسان يمتاز عن باقي الكائنات بالعقل والنطق، ولسانه ترجمان عقله، كما أنّه بفطرته وأصل خلقته هو كائن اجتماعي، يأنس ويألف الآخر، ويعتبر الحوار بالنسبة للإنسان حاجة أساسية وضرورية كالهواء والماء والغّذاء، و لا يمكن أن يصل الحوار والانفتاح إلى مبتغاه إلّا بتحقق أمرين اثنين:
أولهما: انفتاح القلب والعقل معاً:إذا لم يفتح الإنسان قلبه خلال الحوار لن يصل إلى حالة التفهم، وما لم يفتح الإنسان عقله لن يصل إلى حالة الفهم.
وثانيهما: الانفتاح على الذات، فمن الضروري أن يتعرف الإنسان على حقيقة آرائه وأفكاره ويؤيدها بالحجج والأدلة التي يستند إليها قبل أن ينفتح على آراء الآخرين وأفكارهم، ومن ثم يقوم بدور المقارنة والمقايسة واختيار الأفضل والأنسب منها.
يكتفي الكثيرون بالمظاهر والقشور والموروثات الاجتماعية، دون أن ينفتحوا على ذواتهم، هؤلاء ما إن يبهرهم رأي أو فكر، إلّا وتراهم أقبلوا عليه، وانشدوا إليه مباشرة، رغم القاعدة التي تقول: ليس كل رأي آخر هو الأفضل  وليس كل فكر جديد هو الأحسن.
ولا يخفى علينا أن عوامل تكريس الانغلاق وتعطيل الحوار في مجتمعاتنا التي تعيش أزمات واضطرابات وتناقضات ليست وليدة الأيام، بل هي نتيجة طبيعية لمقدمات وعوامل تراكمت عبر عشرات السنين، وساهمت في تكريس حالة الانغلاق  والتعصب والتطرف، بل رفض الآخر، وتتعدد هذه العوامل بتعدد جذورها ومصادرها، فعلى الصعيد التربوي: نجد أنّ الكثير من الأسر وخلال فترات طويلة، ربّت أطفالها على الخوف والحذر من الآخر، وتحت عناوين وألقاب متعددة (البعبع– الشرطي… الخ) ويمارس الوالدان أو أحدهما أسلوب الأمر والزجر مع الأولاد، دون إعطائهم أي فرصة للنقاش أو تحريض التفكير.
وعلى الصعيد التعليمي نرى أن الأساليب التعليمية التي انتهجت أسلوب التلقين يغلب عليها فرض الرأي الواحد، وعدم الحرص على الحالة التفاعلية بين الطالب والمدرس، بينما تدرّس في اليابان مادة بعنوان (طريق إلى الأخلاق) في كامل المرحلة الابتدائية، تهدف إلى التربية وغرس المفاهيم والقيم الاجتماعية وبناء الشخصية إلى جانب التعليم والتلقين.
أما  على الصعيد الاجتماعي، فقد وصلت العلاقة بين التكتلات الاجتماعية والانتماءات الفكرية المختلفة في المجتمع الواحد، إلى حدّ القطيعة والتنافر، بدل حالة التكامل والتنافس الإيجابي، حتى بات التواصل والانفتاح لوناً من ألوان الخيانة للمجموعة الأم، وتعبير عن انعدام الولاء وميوعة الانتماء.
وكذلك على الصعيدين الديني والمذهبي نجد أنّ معظم التوجيه الديني قد انتهج، ولا يزال، أسلوب التعصب والتشنج، فكل طرف يرى أنّه يمثّل الحق والصواب وأنّه الفرقة الناجية، وباقي الفرق إلى النار.
بينما على الصعيد السياسي يزداد الأمر سواداً في ظل حكومات تقمع الرأي الآخر، بل لا تسمح لأي لون من ألوان المعارضة، وتعتبر أنّ كل من يخالفها الرأي والمنهج، يستحق أقصى العقوبات، لأنّه شقّ عصا الطاعة، ويلاحظ نوعان من الأنظمة في أسلوب تعاطيها مع الرأي الآخر: فمنها من يسمح بفتح باب الحوار والمشاركة، ومنها من لا يقبل أبداً بتعددية الآراء، ويحاسب على ذلك، ويصل إلى درجة المبالغة والتشدّد، وأخذ المواقف من السلطة، واعتبار أي حوار معها حالة من التراجع والخيانة.
وهناك الأسباب المباشرة الداخلية التي تؤدّي إلى محاصرة العقل وعدم الانفتاح، ومنها: الجهل والسذاجة،واللامبالاة، والكسل وتبلد الذهن، وضعف الثقة بالذات، والخوف من الرأي الآخر، والغرور والاستبداد بالرأي، ويشرح كل عامل منها.
أمّا الأسباب المباشرة الخارجية فتلخص بسببين اثنين هما وجود تضليل إعلامي مركّز، ومضاد للرأي الآخر، مما يساهم في الحشد والتعبئة، وإطلاق المواقف، والأحكام المسبقة بحقّه. ووجود قوة تمارس دور الوصاية والقمع الفكري، مما يساهم في الحدّ من حرية الفكر، ومنع نشر الآراء المخالفة والمعاقبة عليها.
إن الهدف من الحوار يجب أن يكون في البحث عن الحقيقة والصواب، والوصول إلى فهم متبادل، وسيكون الحوار عقيماً وغير منتج عند إظهار الغلبة والإفحام أو الشهرة أو ممارسة الجدل للجدل، ويتيح تحديد موضوع البحث،عدم تشعيب الحوار، وغياب الفكرة الأساسية، ولا بد من تحديد المصطلحات والمفاهيم إجرائيا والاتفاق على مدلولاتها، كما ينبغي أن تسود أجواء الحوار درجة عالية من التقدير والاحترام المتبادل، لأن أجواء التوتر النفسي والشحن والبغضاء، تعكّر استمرار الحوار، بل ستؤدّي إلى نتائج سلبية وهدّامة.
وقد ساهم العديد من القنوات الفضائية بالتحريض الطائفي، وإشاعة الفتن، من خلال اختيارها المتعمد لأشخاص يسيئون للفكرة، ويعمّقون الخلاف ويرسّخونه، وهنا لا بد من تركيز الطرفين على المشتركات ونقاط الالتقاء، والانطلاق منها إلى معالجة القضايا الخلافية ومناقشتها والوصول إلى النتائج الإيجابية.
د. محمد نظام