ثقافة

بين حانة ومانة ضاع جحانا..!

…وقررتُ بعد تفكير طويل عريض أن أسحب البساط من تحتي.. وأهديه لمن يشاء..! ضربنا الأمثال فوقعنا في حفرة الاستفهام..! ودواليب الإنقاذ الميثولوجي للموروثات لا تنفع في زمن مبرمج على مقاس سرير بروكست..!
ألبسوا الحكايات المتوارثة أباً عن جد.. طرابيش وأزياء مرهونة بالزمكان… وصبغوها مناخاً قصصياً وبلعوا مفاتيحها كي يمنعونا من الدخول إلى الحقيقة.
سألوا جحا: لماذا قتلت أباك؟
قال: كان هناك مخطط لإقامة رحلة للأيتام فقط!
ولكن يا جحا لماذا قتلت عمّك؟
جحا: لأنني رغبت في اصطحاب ابن عمي معي في الرحلة!
طيب لماذا أردت الانتحار؟
جحا: لأنهم قاموا بإلغاء الرحلة..!
نحن نعلم أن النكتة لا تُقال للإضحاك، وإنما للتلميح إلى مكبوتاتٍ قد لا نستطيع الإفصاح عنها، ومنها نأخذ العبر. وقد تؤثر على نحو أو آخر في طبيعة العلاقات. والأمثلة كثيرة. والمسألة المرتبطة بطرح النكتة وتقديمها يختلف من شخص إلى آخر.. وهي تشبه العامل الفني في قول النكتة.. من انفعال وتقاسيم وأداء.
وما حاجني لاستحضار إحدى نوادر جحا هو الاحتفاء في بعض الدول بولادة تلك الشخصية الفكاهية الساخرة التي عاشت معنا ورافقتنا، وتناقلنا نوادرها البسيطة والمعبرة، ولكنها في الحقيقة أثرت في تاريخ الأدب العربي الساخر وفي أدب الشعوب العالمية الأخرى.
نعم، لقد نسينا وربما تناسينا (جحا.. نا)، وهنا، لا بدّ من الوقوف قليلاً عند شخصيته  التاريخية وحكاياته التي تهافتت عليها الشعوب. فحسب الموسوعة الحرة “ويكيبيديا”، فإن جحا هو شخصية فكاهية من الأدب العربي، وقد اختلف الرواة والمؤرخون عليه، فتصوّره بعضهم مجنوناً، وقال آخرون إنه رجل بكامل عقله ووعيه، وإنه يتحامق ويدّعي الغفلة ليستطيع عرض آرائه النقدية والسخرية من الحكام بحرية تامة.
وقد أُلفت مئات الحكايات المضحكة ونُسبت إليه بعد ذلك. ويبدو أن الأمم الأخرى استهوتها فكرة وجود شخصية ظريفة مضحكة في أدبها الشعبي لنقد الحكام والسخرية من الطغاة والظالمين، فنقلت فكرة (جحا العربي) إلى آدابها مباشرة. وهكذا تجد شخصية (نصر الدين خوجه) في تركيا، و(ملا نصر الدين) في إيران، و(غابروفو) جحا بلغاريا المحبوب، و(أرتين) جحا أرمينيا صاحب اللسان السليط، و(آرو) جحا يوغسلافيا المغفل.
وأغلب المؤرخين يعتقدون أنها شخصيات أسطورية لا وجود لها في الواقع، وقد اشتهرت حكاياتها في القرون الستة الأخيرة، وربما أشهرها وأقدمها هو(الخوجة نصر الدين) التركي الذي عاصر تيمورلنك في القرن الرابع عشر الهجري، كما يتضح ذلك من حكاياته الطريفة مع هذا الطاغية المغولي.
هنا، أعود إلى العنوان بين حانة ومانة وزوجهما.. فالرواية تقول: “إن الرجل كلما دخل إلى حجرة حانة (صغيرة السن) نظرت إلى لحيته ونزعت منها كل شعرة بيضاء وقالت: يصعب عليَّ أن أرى الشعر الأبيض يلعب بهذه اللحية الجميلة وأنت مازلت شاباً.! فيذهب الرجل إلى حجرة مانة الشمطاء فتمسك لحيته وتنـزع منها الشعر الأسود وتقول له: يُكدِّرني أن أرى شعراً أسود في لحيتك وأنت رجل كبير السن جليل القدر..!”.. واستمر الحال على هذا المنوال مدة من الزمن.. فنظر الرجل إلى المرآة ومسك لحيته وشدها بقوة وقال: “بين حانة ومانة، ضاعت لحانا”..!
رائد خليل