ثقافة

د. لوقا يبحث عن عنوان وكذلك نحن

“كتاب يبحث عن عنوان” عنوان شائق يشدنا منذ اللحظة الأولى، ترى أي عنوان يريده د. إسكندر لوقا ويشرك القارئ معه في البحث عنه، لصفحات سطرت مفرداتها الغيمة السوداء التي غطت سماء سورية من خلال مشاهداته الخاصة، ومتابعاته الأحداث التي عصفت بحياتنا وطالت مختلف مناطق سورية، واستهدفت نسيج المجتمع السوري كله.
ضم الكتاب الصادر حديثاً عن دار طلاس مجموعة من القصص تحمل كل قصة حكاية قذيفة تشل بشظاياها حركة أبرياء لايريدون إلا أن يعيشوا بسلام، وتتميز المجموعة بسمة التأريخ والتوثيق للمرحلة التي عشناها خلال السنوات العجاف، لتبقى شاهداً على همجية وقسوة الإرهاب، ولم يعتمد الكاتب على أسلوب فني واحد فبعض القصص مضت بسرد واقعي للحدث، وأخرى غلبت عليها الروح الأدبية والنسق الشعري الوصفي، وبعض القصص هيمنت عليها الشخصية كمحور أساسي..

قذائف الإرهاب
في قصة “عنوان القرية” توقف السارد عند أم محمود التي رفضت ترك قريتها حتى بعد استشهاد ابنها الوحيد محمود برصاصة غادرة من بندقية قناص مجهول، “وصارت أم محمود أماً لجميع شباب القرية بلباسهم العسكري”، لتتقاطع هذه القصة مع قصة”سيعود يوماً” وحكاية أم يوسف التي عاشت فرحة فكّ الحصار عن مطار”كويرس العسكري” ليعود ابنها الذي ارتقى مع الشهداء وتركها تنفذ وصيته بوضع غصن من الياسمين على قبره، وفي قصة”عينك على الجريح” يضعنا مباشرة إزاء الحدث ليصف وقائع سقوط قذيفة هاون على شرفة منزل في حيّ القصاع الذي يوضح الكاتب بأنه استهدف مرات عدة وبقي سكانه يصرون على البقاء لتمسكهم بوطنهم، وفي الوقت ذاته يظهر إيثار المواطنين بإسعاف بعضهم رغم تعرضهم للإصابة يبدو ذلك برفض (أبو بسام) الانصياع لأوامر رجل الأمن وإسعافه أحد الأطفال، وتلتقي هذه القصة مع خطوط قصة”ولا تزال تنتظر” التي يتناول فيها مسألة تهجير سكان القصاع وباب توما هرباً من المسلحين فيهاجر الأبناء وتبقى الأمهات وحيدات تنتظرن عودتهم خلف النافذة، وفي”ضحية وباء” يطلق د. لوقا مفردة وباء على التشفي من المرأة ببيعها في سوق النخاسة في البلد الذي حرر العالم من قيد العبودية عبْر حكاية امرأة استيقظت على وقع قذيفة لتجد نفسها بين مجموعة من النساء ليطرح المنادي سؤالاً من يريد هذه المرأة الجميلة؟ ويمضي السارد بتفاصيل التنظيم الإرهابي بقصة”عدتُ ولكن بعد ماذا” بحكاية قناص على الحاجز يستعيد وعيه بعد أشهر من انضمامه إلى التنظيم على حقيقة مايحدث فيقرر العودة إلى مدينته فيجد حيّه أكواماً من الحجارة والأعمدة وجذوع الأشجار، ليفاجئنا د. لوقا بالقفلة المدهشة حينما يصغي القناص التائب إلى صوته الداخلي” دعك من معاقبة نفسك ابحث أولاً عمن خدعك وجنا عليك”، ويتخذ من محور العودة صورة أخرى في قصة”هذا هو قراري” بقرار مهندس غادر مدينته في حمص لمتابعة دراسته في فرنسا وبعد العودة يجد نفسه خارج الزمان والمكان في مدينة وصفها بأنها هاربة من كارثة هيروشيما الرهيبة، ورغم ذلك يتخذ قراره بالبقاء لوضع الأسس لجسر مهدم.

مراكز الإيواء
ولم تكن مراكز الإيواء بعيدة عن اهتمام السارد إذ تضمنت المجموعة بعض القصص التي دارت أحداثها بين جدرانها وأسرتها مثل “قصة من زمن الفراغ” التي تدور أحداثها عبر محاورة صغيرة بين صبرية وربيعة تستعيدان فيها لحظة هجوم المسلحين على منزلهما الآمن، لتتوقف صبرية عند وحشية مشهد قتل أبيها، ليصوّر مشهداً آخر في أحد أسرة مراكز الإيواء في قصة “شكراً ماما” حينما طلبت الأخت الصغرى من الأخت الكبرى أن تصبح أمها بعد ضياع الأم أثناء سقوط القذيفة، كما حفلت بعض القصص بالطابع الإنساني الذاتي وفاضت بالحزن كقصة “تمثال من الثلج” التي تحكي قصة امرأة مرمية بعباءتها السوداء في مكان قريب من ساحة العباسيين تضم إلى ثديها طفلها الرضيع وقد تجمدت أطرافهما، ليغيب القارئ بحزن عميق حينما يصل إلى القفلة مع السارد الذي يوضح بأنها كانت تتوسل أن ينقلها أحد القادمين إلى دمشق بسيارته فلم يستجب لطلبها أحد لانعدام الثقة بين الأخ وأخيه في زمن المحنة، ليفعل الثلج فعل القناص. ويخلص السارد إلى صمود الشعب السوري وتلاحمه بجنوحه برمزية نحو أنسنة الأشياء من خلال قصة “الأشجار تتكلم” والتي تحكي حكاية الشجرة التي اخترقت جذعها القذيفة لكنها رفضت أن تموت وبقيت على قيد الحياة واقفة ينتشر الصمغ على أطرافها ليرمم أحزانها ويشفي جروحها.

ملده شويكاني