ثقافة

“مختارات من شعر الهايكو الفارسي”.. ثقافة أمة في كتاب

تقدر الشعوب والأمم فنون بعضها البعض، خصوصا تلك الشعوب التي تعاصرت حضاراتها في التاريخ مع بعضها، أو تلاقحت فيما بينها بما يعتمل في الحياة الاجتماعية والفكرية والفنية أو الأدبية، حتى صار لها هوية اجتماعية وفكرية وفنية وحتى اقتصادية متقاطعة وليست خاصة، وذلك بأن بقي لكل أمة أسلوبها الفريد في صياغة ما يستقيه فكرها أو ما ينتجه متأثرا بفكر آخر أو علم آخر أو فن آخر ..الخ.
“الهايكو” الياباني مثلا، والذي يعتبر واحدا من أهم فنون الشعر الياباني، إن لم يكن الأوحد والأهم، لم تقف شهرته ضمن حدود تلك البلد ذات الإرث الثقافي الشرقي ولو في الملامح العامة، بل تعدت حدودها بالترجمات حتى بلغت بقاع الدنيا،ففي سنة 1949م، ومع نشر المجلد الأول من كتاب “ريغنالد هوراس بليث” (1898-1964م) “الهايكو”، دخل هذا الفن الشعري بقوة إلى الغرب، وكان ذلك المجلد بمثابة فاتحة جديدة ضمن سلسلة أعماله عن “الزِّنْ والهايكو والسنريو”، وعن صنوف أخرى من الأدب الياباني والآسيوي، على الرغم من أن “بليث” لم يتوقع ظهور “هايكو” أصيل في لغات أخرى غير اليابانية عندما باشر الكتابة في الموضوع، وعلى الرغم من أنه لم يؤسس لأي مدرسة في الشعر، فقد حفزت أعماله كتابة “الهايكو” بالإنجليزي ففي آخر المجلد الثاني من كتابه (تاريخ الهايكو)، لاحظ أن آخر التطورات في تاريخ الهايكو هو تطور لم يتوقعه،وهو كتابة الهايكو خارج اليابان!، وليس باللسان الياباني، بل باللسان الفارسي، حيث ظهر أيضا هذا الفن الشعري باللغة الفارسية إلى جانب فنون شعرية أخرى كالرباعيات، التي تميل في الرشاقة ولو الجوهرية، لمضمون الهايكو عموما، لكن بالتأكيد، التقنية مختلفة والبنية الدلالية والوصفية أيضا مختلفة.
“مختارات من الهايكو الفارسي” الكتاب الصادر عن دار “دلمون الجديدة” للنشر، إعداد وترجمة “توفيق النصاري” يذهب نحو توثيق هذه الروح الفنية عن الشعراء الإيرانيين خصوصا الشباب منهم، وهذا ما يقدمه الكتاب الأنف الذكر عن كيف أصبح الارتباط باللحظة الحاضرة، يقابله ذوبان في الطبيعة، بالرصد الكامل لتلك اللحظة بعينها، التي تتناغم فيها مفردات الطبيعة نفسها، معبرة عن العالم بفكرة مجردة واضحة وجلية، يصيغها شاعر “الهايكو” بكثير من البراعة والرشاقة وتكثيف المعنى، وهذا ما جعل الشعراء الإيرانيين، يجدون في “الهايكو” الفارسي ملعبهم، فهم قد ورثوا بدورهم الشعر الصوفي، وهو شعر مليء بالحكايات والرموز والصور المجازية، إن كان في أشعار “حافظ الشيرازي وجلال الدين الرومي وفريد الدين العطار وعمر الخيام” ، لذا لن تكون الصفات الفنية التي تعتبر من خواص “الهايكو” الياباني، بعيدة في البنية الدلالية عن الهايكو الفارسي الذي تحضر فيه تلك العناصر أيضا الفنية أيضا كما في بعض المقاطع التي يوردها الكتاب:  “لا تصلح لشيء/ ولا يمكن رميها/ صنادل أمي” “نتحدث/ تمر الغيوم بهدوء/ في نظاراتها”
يحسب للشعراء الذين يكتبون الهايكو الفارسي قدرتهم على كتابة هايكو صحيح من حيث البنية والشكل، فلا يخلطون بينه وبين القصيدة القصيرة المتكونة من ثلاثة أسطر، بينما نجد أن هناك كثيرا من الذين يكتبون “الهايكو” بالعربية لا يعرفون بالضبط كيف يميزون بين قصيدة قصيرة من ثلاثة أسطر وبين الهايكو، ومن هنا جاءت أهمية الترجمة التي قدمها “توفيق النصاري” للعديد من نماذج شعر الهايكو الفارسي، معتمدا لا على الترجمة الحرفية التي غالبا ما يضيع معها المعنى، بل على تشبعه بروح الفكرة، والشعور بأبعادها بإحساس ربما يتقارب وإحساس الشاعر نفسه، لذا خرجت الترجمة لهذه المختارات، من دائرة الترجمات التقليدية، لتدخل في ما يسمى بالترجمة التفاعلية، وجاءت القصائد التي تضمنها الكتاب، رشيقة، ذكية، دّالة، والأهم تحمل روح الهايكو الفارسي بخصوصيته أيضا، وهذا بشهادة واحد من أهم شعراء الهايكو ومُعربيه من العرب والسوريين تحديدا، الشاعر السوري “محمد عضيمة”.
و”الهايكو” عموما هو شعر مكون من ثلاثة أسطر تحكمه مبادئ مستمدة من أصول الجماليات اليابانية وهي: “الإخلاص والخفة والموضوعية والحنو على كل المخلوقات الحية والبساطة والسكينة والوحدة والجمال المجرد في انسجام مع الطبيعة، وهذا مالم يتخل عنه الهايكو الفارسي، الذي يعكس خصوصية مكانه الجغرافي كمكان وكحياة أناس بما فيها من ماض وحاضر، من تراث وشوق إلى تحديث فلكلوري ولو شعريا، لأن الهايكو إذا أهـملَ الخصوصية المحليّة، سيصبح هايكو لا يمكن تحديد هويته، ذلك أن كثيرين من مختلف أنحاء العالم يكتبونه، فهو إذًا هايكو شائع، لذا سنجد الملامح الجغرافية والرموز الفنية وحتى مفردات الطبيعة ومخلوقاتها، موجودة في الهايكو الخاص بكل شعب، فهو في روحه، يحمل روح الحياة في مكان وزمان ما.
كتاب “مختارات من الهايكو الفارسي” يقدم وبخفة ورشاقة العديد من النماذج النابضة بالحياة، عن هذا الفن في اللغة الفارسية، والمترجم “النصاري” عمل على أن يجعل هذه القصيدة التي تعتبر بعيدة عن ثقافتنا عموما-رغم أن لوثة الهايكو” الآن تضرب كتسونامي شواطئ “الشعراء الجدد”، إلا أنه أجاد في اختيار المفردات وموالفتها بمهارة مع المعنى، بحيث لن يشعر القارئ إلا بجمال تلك القطع الشعرية الصغيرة، والتي تبدو وكأنها أوانٍ مزخرفة بريشة الطبيعة أيضا. يضم الكتاب قصائد للعديد من الشعراء الإيرانيين ومنهم “عباس كيارستمي- هنكامة أحمدي- علي سيران- فاطمة آتش سخن- يوسف صديق” وغيرهم من الشعراء الذين كتبوا قصيدة الهايكو بخصوصيتهم الزمكانية.ومن تلك القصائد نختار بعضا من المقاطع الشعرية.
“بانتظار القمر/الخيزرانة الخضراء/ محنية على البركة” “غروب بارد/ بمكنسة الورق/أعدُّ العمر الفائت”. “ليلا كامكار”: شاعرة إيرانية
“كل الشهداء/بعد هذا الثلج/مجهولو الهوية” “الكرسي المتحرك/لا يصعد/سلالم متحف الحرف.  “حميد شكارسري” شاعر وناقد من طهران
تمّام علي بركات