ثقافة

“أوكتافيو باث” الشجرة التي نطقت بستان حروف

يمكن القول أن أمه هي من تولت أمر رعايته وتربيته، بعد أن توفي الأب المدمن على الكحول في حادث قطار، وكانت وهي “الأمية” تدفع بكل ما لديها من طاقة الأم وعزيمتها وقدرتها، ليتجه ابنها إلى العلم وكتابة الشعر، الذي كانت تستمع إليه في المهرجانات التي كانت تقام في بلدتها، راقها ذلك السبك المحكم للكلام، والموسيقا الخفية والمدهشة التي تحملها بشكل خاص قصائد الحب، لذا كان إصرارها لا هوادة فيه أن يخوض ابنها في مجال الشعر، وكم كانت محقة بما فعلته وأصرت عليه في حديثها، فالشاعر والأديب الأمريكي اللاتيني “أوكتافيو باث”-1914-1998- هو الشاعر والأديب الأول في أمريكا اللاتينية، الذي نال جائزة “نوبل”-1990- فالولد الذي عاش في كنف والدته وحضانة روحها، نشأ رقيق القلب، انفعالي الحال، لين المشاعر، رغم بعض مظاهر القسوة التي يبديها في العديد من قصائده، لكنها غالبا قسوة حسية انفعالية، تُنتج حساسيتها بالكتابة، بالقصيدة، بالجملة الشعرية وبصياغتها أيضا كما في الجملة الشعرية التالية التي وردت في واحدة من قصائده “أن تُحبّ معناه أن تُحارب” فالنتيجة النهائية من هذه الحرب رغم انسحاب القسوة على بعض جوانبها، هي نتيجة مذهلة وتستحق الحرب لأجلها “إذا تحابّ اثنان/العالمُ يتغيّر/وتتجسّدُ الرّغبات وينسجمُ الفكر وتخفقُ الأجنحة/الخمرةُ هي الخمرة/والخبزُ يغدو له طعمَ الخبز/والحبّ يعني أن تُحارب وأنْ تفتح جميع الأبواب”.

إلا أن هذه الرعاية الأمومية له لم تكن هي الوحيدة التي أنتجت وعيه الثقافي والشعري والعملي أيضا، فهناك ثقافتان أثرتا العوالم السحرية للشاعر المكسيكي من أم إسبانية، وهي الثقافة الهندية الأصلية السّابقة للوجود الكولومبي، والثقافة الإسبانية المعاصرة الغربية، التي تنشأ عادة بعد أن ينخفض صوت الحروب ويعلو صوت العقل، ليجيء هذا التمازج المدهش بين السحري والواقعي نجد صداه في مختلف أعماله الإبداعية الشعرية على وجه الخصوص، وفي مختلف أعماله الدراسية والإبداعية النقدية، هاتان الثقافتان وأثرهما، ضمهما الشاعر إلى مجموعته الشعرية “متاهات العزلة”-1950- التي كتبها بعد أن نال منحة دراسية لمدة عامين في أمريكا، حيث تعمق في دراسة الشعر الناطق بالإنكليزية ولاسيما أعمال شعراء مثل “ت.س إليوت، إزرا باوند”، وبعدها بدأ شعره يكتسب خصائص مميزة، مستفيداً من تقاليد الشعر الإنكليزي، فكتب قصائد طويلة وأدخل القصة في القصيدة مستخدماً لغة المحادثة، وهو ما تبدى واضحاً في مجموعته “الحرية بضمانة الكلمة”-1949- “كنتِ بجانبي لا تزالين نائمة/لقد ابتكرك النهار/لكنك لم تقبلي بعد/بأنكِ من ابتكارِ هذا النهار/وربما أنا أيضا”.

يمكن الحديث كثيرا عن العناصر والتقنيات المدهشة التي اشتغل عليها الشاعر الفائز بجائزة “ثربانتس” الأرفع في إسبانيا، إلا أننا يمكننا وصف قصائد “باث” أو شعره عموما، بكونه شعراً مبطّناً بتيّارات وشطحات صوفية ومشرقية، وكأنه نتاج أكثر من شاعر معا، لا من حيث التنافر في صياغة القوالب الشعرية، بل من حرفيته -التي تبدو للقارئ وكأنها تلقائية وعفوية وهي على العكس تماما، لأنها منتقاة بعناية باذخة، فهي تجعل نصه الشعري مؤسسا على الصورة، التي تشتغل ببلاغة بارعة على وضع المجاز واللغة والعالم على قدم المساواة، في تقديمها للمحسوس السامي منه وعكسه، وليضع “باث” بهذا المعنى قصيدته لا في مواجهة العالم فحسب، بل إنها تحاول حتى أن تحتويه كمخلوق جديد، وإن كان هذا العالم سابقا للقصيدة.

مما يحسب لـ “أوكتافيو أيضا وبجدارة، هو قيامه بتسونامي شعري لا يرد، كسر فيه صاحب “فصل العنف” الاحتكار الأوربي للشعر في العالم الغربي، فالرجل الذي تسنى له من خلال عمله كدبلوماسي أن يزور الكثير من البلدان، ومنها فرنسا، التي أذهلته فيها  الشعرية السريالية أو “المذهب السريالي في الشعر”، حتى أنه تشبع بروحها، بعد أن وجد غنِاها وتنوعها وانعتاقها مما قيد الشعر طويلا قبل ظهورها، وجدها في شعرائها الكبار “بريتون-بو إيلوار-رامبو وغيرهم” رموز السريالية الأوائل في ذلك الوقت، هذه السريالية التي هي بطبيعتها، تمرد شامل يهدف إلى تحطيم قيم الحضارة الغربية، واستعادة الحالة الطبيعية للكائن البشري وتحويل الكون على صورة رغبته هو، لا رغبة ساسته، وصيارفته، وتعتبر مجموعته الشعرية “نسر أم شمس” واحدة من أهم أعماله السريالية، إضافة إلى “فصل العنف” حيث فوضى الصور، والاستغراق في الأنا، والرؤية الهذيانية المفككة للواقع، وتصالح المتناقضات، والقطيعة مع الحواجز التي يقرها العقل وتتجمع كلها مستجيبة لتوغله في عالم هذا المذهب الأدبي.

حاز شعره محبة كل من قرأه بلغته أو مترجما، إن كان بالدهشة التي تولدها مفرداته الشعرية المشحونة بطاقة إيحائية فريدة فعلا، أو بأسلوبه البارع في تأسيس الصورة الشعرية لنصه، أيضا بالإيقاع الذي يقول عنه الشاعر بأنه “ليس هو النغم فقط، بل هو إذا جاز التعبير الشكل الذي ينتظم القصيدة، لحناً فكرةً لغة”.

عنه:

ولد أوكتافيو باث عام 1914 في إحدى ضواحي مدينة مكسيكو العاصمة لأب مكسيكي وأم من جنوب إسبانيا. نشر أول أشعاره وهو في السابعة عشرة من عمره، ثم التقى بالشاعر التشيلي بابلو نيرودا وتأثر بشعره. وفي عام 1936 شجعه نيرودا على زيارة إسبانيا لحضور مؤتمر الأدباء بمدينة فالنسيا، وكانت الحرب الأهلية الإسبانية على أشدها في ذلك الوقت.

شملت كتاباته الشعر والفن والدين والتاريخ والسياسة والنقد الأدبي، ونشرت له خمسة دواوين شعرية صدر أولها سنة 1949 وآخرها سنة 1987. ومن أهم أعماله التي كرمتها الأكاديمية السويدية عندما منح جائزة نوبل كتاب “متاهة العزلة” الذي صدر سنة 1961 وحاول فيه باث أن يتحرى عن شخصية الإنسان المكسيكي ويسبر أغوارها.

منح أكتافيو باث عدة جوائز أدبية رفيعة من أهمها:

جائزة ثيربانتس- وهي أكبر جائزة أدبية تمنح لكتاب اللغة الإسبانية – عام 1981.

جائزة ت. س. إليوت من الولايات المتحدة الأمريكية عام 1987.

تمّام علي بركات