ثقافة

“طريق النحل”.. سنعود أقوى و أجمل!

نغمات الناي التي انطلقت من أرض سورية وباحت بأوجاع السوريين وترجمت عشقهم وملامح فرحهم، هي ذاتها النغمات التي دفعتهم لخيار البقاء رغم كل الأوضاع الصعبة، وهي نفسها التي تعانقت مع مفردات أغنية فيروز في فضاء سماء سورية لتختزل رسالة عبد اللطيف عبد الحميد السينمائية في فيلم”طريق النحل” بأننا باقون وسنعود أقوى وأجمل.

ولم تحمل نغمات الناي فقط رسالة عبد الحميد وإنما كل دقيقة في الفيلم الروائي الطويل كانت منسوجة بحبكة درامية ترتبط بمفاهيم الحبّ والوطن والانتماء والهوية، لتعكس في جانب آخر آلام الفقد والموت والخراب والتدمير، فمنذ اللحظات الأولى للفيلم باحت حجارة دمشق القديمة وأقواسها بتاريخ حضارات من الصعب أن تقضي عليها الحرب الإرهابية التي تعرضت لها سورية، لتنطلق كاميرا عبد الحميد من منزل في دمشق القديمة من فناء المنزل، من القذيفة التي سقطت قرب البحرة وتصدى لها رمزي-يامن الحجلي – ليمنعها من الانفجار كانت رسالة الشباب السوريين الذين دافعوا عن سورية من جميع مواقعهم، فتناول المخرج الحرب السورية بفنية غير مباشرة ومباشرة  بآن واحد بأسلوبيته الخاصة مبتعداً عن المشاهد التوثيقية للخراب، وعن صور القتل والموت العشوائي، لنسمع في كل المشاهد هدير الطائرات التي تحلق في سماء سورية التي تعشق الجمال والفنون، لترافق يوميات السوريين في كل مكان في المنزل في الشارع في العمل وفي الأماكن العامة، ولتشهد على نبض الحياة الذي لم يتوقف طيلة سنوات الحرب رغم الموت المحيط بنا من كل اتجاه، كانت شاشة التلفزيون بصوتها البعيد ودون تصويرها المباشر من الكاميرا تبث صوت رمزي الحزين وهو يتحدث عن الرقة، عن داعش، عن تهجيره عن والدته، ليمرر أيضاً رسالة عبد الحميد بأن الشعب السوري واحد بكل شرائحه وأطيافه ومناطقه بتكرار رمزي كلمة “أحبك” بكل اللهجات السورية المحكية، رسالة الحبّ التي وظّفها المخرج لحبّ الوطن والانتماء إليه، رغم صافرة سيارات الإسعاف التي كان يقلد صوتها رمزي ليقابل تقليده صوت العصافير التي تنشد الأمان إيماءة قوية إلى الشعب السوري المتمسك بإرادة الحياة. وتمكن المخرج ببراعته ومهارته السينمائية من الإبحار بالفيلم إلى عوالم رومانسية وعاطفية معتمداً على الواقعية البسيطة واللقطات القريبة بعيداً عن الإبهار البصري في سرد الحكاية السينمائية، ومركزاً على الجمال الأنثوي على غرار التشكيليين لأن الأنثى رمز للأم والوطن والبقاء.

فيلم داخل فيلم

تدور قصة الفيلم حول مخرج – الأستاذ جميل-أدى دوره عبد اللطيف عبد الحميد يبحث عن بطلة لفيلمه الجديد تتحلى بروح الأنثى، ولم يجدها في كل المرشحات لتجسيد الدور، ليلتقي مع ليلى الطالبة بكلية الطب البيطري- بطلة الفيلم الممثلة الشابة جيانا عنيد والتي تميّزت بأدائها العاطفي الرائع- مصادفة بالمطعم ويعرض عليها التمثيل، ليلى المهجّرة من حمص المنكوبة والتي تمرر بحوار خاطف في أحد المشاهد وهي تتحدث مع رمزي حكاية عائلتها، إذ استشهد والدها وأخوها الصغير   بالانفجار، وأصيبت والدتها لتموت بعد ثلاثة أيام، وبقيت هي وأخوها مدحت –وائل زيدان- يستأجران جزءاً من المنزل في دمشق القديمة، ويرتبطان بعلاقة صداقة مع رمزي المهجّر من الرقة والذي يستأجر غرفة من المنزل، ليكون الحضن الدافئ الذي يرمز إلى الوطن.

وتتشعب خطوط الحبكة ليمضي الفيلم باتجاهين: الزمن الفعلي للفيلم وهو الأحداث الحقيقية، والزمن الافتراضي وهو تصوير مشاهد الفيلم، ليتقاطع عبد الحميد بفكرة الفيلم مع عدد من الأفلام العالمية التي تناولت الفكرة ذاتها بتصوير فيلم داخل فيلم، ويقحم المخرج مشهداً لظهور الفنانة سلاف فواخرجي باسمها الحقيقي بلقطة حينما تلتقي معه بالمصادفة بالمطعم وتتحدث معه عن رغبتها بالعمل معه مجدداً.

 

قصة حبّ متشعبة

لقد بنى عبد الحميد فيلمه على قصة حبّ مختلفة عن أفلامه السابقة، قصة تجمع بين فتاة وثلاثة رجال يرمز كل رجل إلى خط معين، ليلى التي ارتبطت بالماضي بقصة حبّ مع ابن خالتها عادل –الممثل بيدروس صموميان- الذي هاجر إلى ألمانيا ويرمز إلى شريحة كبيرة من الشباب الذين اضطروا إلى الهجرة بعد أن خسروا كل شيء ولم يرغبوا بالبقاء، أو الذين هربوا من الموت إلى مكان أكثر أمناً من وجهة نظرهم، ليضغط على ليلى عبْر كاميرا الكمبيوتر بالهجرة إلى ألمانيا واللحاق به للبدء بحياة جديدة، وبين رمزي الذي شدّها منذ اللحظة الأولى وأحست تجاهه بالأمان، وبين سليم –الفنان بيير داغر الذي شارك بالبطولة بحضوره الآسر الذي تعجب بشخصيته وحضوره ومكانته الاجتماعية وبشعره الأبيض كما ذكرت في أحد المشاهد، ويغوص عبد الحميد بمشاعر الأنثى حينما تجد نفسها حائرة إزاء الرجل الذي يحدد مصيرها، وليمرر رسالة إلى الأنثى من خلال أحد المشاهد التي تجمعها بسليم- الرجل الأرمل بطل الفيلم الذي تصوّر معه بلقطة قريبة جداً في سيارته- بأنها ليست الأنثى التي تتزوج من رجل وتفكر برجل آخر”أنا برفض عيش من ثمر شجرة، واهرب لفي شجرة تانية”. لنصل إلى المنعطف الأساسي بالفيلم حادثة استشهاد رمزي بانفجار قذيفة، لكن المخرج عبد الحميد فاجأ جمهوره هذه المرة ببارقة أمل توحي بالنصر وبحياة جديدة حينما تتعرف ليلى مع أخيها مدحت إلى الجثة، فتحدث معجزة بعودة رمزي إلى الحياة واستيقاظه من موته المؤقت، ليحلل المخرج الحالة الطبية من خلال المشهد التالي بوجود الطبيب –المخرج أحمد إبراهيم أحمد- الذي يفسر حالة الموت المؤقت وتوقف القلب، ومن خلال تصوير الفيلم بين ليلى وسليم وحضور خاص للفنانة غادة بشور بدور زوجة سليم، يناقش عبد الحميد مسائل اجتماعية مازالت موجودة في المجتمع مثل العلاقات الاجتماعية الخاصة مع الشخصيات الرسمية التي تؤدي إلى تحقيق مصالح فردية، وعدم الالتزام الأسري، وبحث الرجل الدائم عن أنثى جديدة، واستغلال الشابة الرجل مادياً مقابل تحقيق رغباته، كما تطرق إلى إيجابية الأساليب الحديثة بالتربية من خلال علاقة سليم بحفيده وإجابته عن الأسئلة المحرجة المتعلقة بالتكوينات الجسدية للرجل والمرأة، وفي الوقت ذاته علاقة الصداقة التي تربط بين الأب سليم وابنته التي تعيش مع ابنها معه.

العودة والبقاء

ينهي عبد اللطيف خطوط الفيلم بسفر مدحت إلى كندا واللحاق بزوجته وأولاده، وبخيار ليلى الهجرة إلى ألمانيا فتودع سليم، وتنهي علاقتها برمزي أثناء تصوير مشاهدها الأخيرة بالفيلم على صوت أمواج البحر التي كانت شاهدة على قصة الحبّ، ليحتفظ عبد الحميد بأجمل مفاجأة تحمل رسالة السوريين بالبقاء بعودة ليلى من بوابة الطائرة إلى نغمات الناي إلى عناق رمزي الذي كان يودعها بتلويح يده ودموعه المختنقة وهي تقول له” بدي ارجع مشي ع الشام” الشام التي تجمعنا.

ملده شويكاني