ثقافة

“لا تدعني أذهب”.. عبقرية ثمّ فشل

“لم أكن أريدها أن تكون رواية تشويقيّة، فبعض كتبي قد تنتهي بشكل لم أفكر فيه. ومن الواضح أنّ “لا تدعني أذهب أبداً” نوع من الخيال العلمي. ولكنني لم أذهب أبعد من كونها رواية تتلاءم مع طلاب المدارس الداخلية”. هكذا وصف الكاتب الإنكليزي الياباني الأصل، كازو إيشيغورو، والحائز على جائزة نوبل للآداب منذ أسابيع، روايته التي حققت أعلى نسب في مبيعات الكتب في أوروبا عام 2005.

ويعدّ “كازو إيشيغورو” من الكتاب القليلين الذين استطاعوا أن يجمعوا بين ثقافتين مختلفتين، ويوظفوا ذلك ليخدم كتاباتهم بشكل متكامل، فتمكن من أن يعيش على حافات عالمين مختلفين ثقافياً، مما ساعده في رؤية الأشياء والأشخاص من منظور شخصي أكثر.

يلخص إيشيغورو روايته هذه في ثلاث كلمات “بريطانيا، أواخر التسعينيّات”. وقد تحوّلت إلى فيلم سينمائي عام 2010 على يد المخرج “مارك رومانيك”، والذي بدوره كان مخلصاً إلى حدّ ما للرواية، لكنه لم يوصل عمق مشاعر إيشيغورو ولطف كلماته، الأمر الذي ظهر واضحاً بضعف المردودات والإقبال على شبّاك التذاكر.

وتحكي الرواية قصّة كاثي وتومي وروث، مثلث الحب الذي ظهرت أولى براعمه في مدرسة “هايلشام”. وتتلخص حياتهم في صراخ حارسة غاضبة عليهم، “لن يذهب أيّ منكم إلى أمريكا، ولن يغدو أيّ منكم نجماً سينمائياً، فخطّ الحياة رسم لكم، ستصبحون بالغين، وستبدؤون بوهب أعضائكم الحيوية. هذا ما خلقتم لأجله”.

وتلعب روث الممثلة (كيرا نايتلي) دور المسيطر، خلافاً لتومي الممثل (تومي غارفيلد) الذي غالباً ما يجد صعوبةً في السيطرة على أعصابه، لكن أبطال الرواية يعيشون على أمل دائم في أن ينقذهم الحب، وقد سمعوا أنه والفن يمنحان المرء فرصة للعيش.

تنقسم الرواية إلى ثلاثة أجزاء رئيسة تصف فترة نضوج الشخصيات الأساسية الثلاثة في مدرسة داخلية قروية، ويوازي ذاك استعادة ذكريات الفترة التي أمضوها في الأكواخ، وانفصالهم في الجزء الثالث قبل إعادة لم شملهم نهائياً كبالغين. وتعد الرواية في معظم جوانبها مقنعةً لأي كان، سواء بالقسوة العادية لأطفال يلعبون، أو طريقة عقد التحالفات وفرطها بين الشباب. وتظهّر نقاط قوة إيشيغورو الروائية في قدرته على الكتابة بوضوح وعدم تكلف، حول تلك الأمور. إلا أن الرواية مخيفة ومثيرة للقلق على عدة مستويات، إذ يركز كازو على تزويد القارئ تدريجياً بتفاصيل صغيرة تكون سبب اضطرابه (أي كلماته لها تأثير موسيقي). وهذا أحد الجوانب التي لم يحسن المخرج التعامل معها كإدخال موسيقى مخيفة على أحداث الفيلم بدلاً من الموسيقى الخفيفة التي تتعاكس والمشهد المعروض. وفي حين يبدو طرح إيشيغورو لقضية الاستنساخ ماكراً للوهلة الأولى وجاذباً ببطء، يظهر رومانيك الاستنساخ وكأنه قضية عرضية مسلم بها.

تختصّ كل أعمال إيشيغورو بالمساءلة التاريخية المعقدة بين الفرد ومجتمعه الأوسع وبخاصة في تلك الأوقات التي يكون فيها المجتمع أمام معضلات أخلاقية مفصلية عميقة التأثير. وتبعدنا عن زماننا، إضافةً إلى إمتاع القارئ وإثارة إعجابه.

والصورة الأساسية الأهم في الرواية بكاملها هي تلك التي نرى فيها كاثي وهي ترقص لوحدها على أنغام أغنية “لا تدعني أذهب أبداً” وتلاعب دمية لها في الوقت ذاته تلعب دورها الممثلة (كاري موليغان).

“سأتخيّل، امرأة أخبروها بأنه لن يكون لها أطفال وهي التي لطالما تاقت حقاً لهم، ثم تحصل معجزة، شيء مثل معجزة، ويكون لها طفل، وتحمل ذلك الطفل قريباً في أحضانها وتتجول وهي ملتصقة به وتغني لأنها مفرطة بالسعادة والفرح ولكن أيضاً بسبب كونها خائفة من أن شيئاً مخيفاً سيحصل، ربما سيمرض ذلك الطفل أو سيؤخذ بعيداً”.

ربما لم يناسب هذا الدور الفلسفي الممثلة في الفيلم، أو لم ينجح المخرج بإظهار مكنوناتها، بكلا الحالتين لم يستغلّ هذا المشهد بالطريقة التي رسمها إيشيغورو والتي أوقفت أقلام العديد من النقاد عجزاً عن ظلمها أو عدم إيفائها حقّها. ولم يوضح رومانيك ما إذا كانت كاثي صمّمت وراثياً لكيلا يكون لها أطفال، أم أنّ الطفل هو كناية عن ذاتها المسلوبة بشكل مباشر، على عكس ما استرسل كازو بإذكائه في روايته، فالطفل هو آمال كاثي وتطلعاتها لمستقبلها القاحل والعبثي والخالي من لحظات البهجة. إن فقدان الأمل في مستقبل المستنسخات البشرية (كما عبّر عنه في تلك الصورة الأمومية) هو بالضبط نتيجة لغياب الحب الإنساني الشفاف والرقيق الذي يكنّه المرء لأطفاله وشركائه في الحياة.

لقد نال الفيلم ردود فعل متضاربة، أحبه واستحسنه بعض النقاد، بينما رأى آخرون أن جزئيات هامة من الرواية اندثرت عند تحويلها إلى فيلم. فكتب “روجر إيبرت” ناقد الأفلام الأمريكي المعروف والذي يكتب في “جريدة شيكاغو سن تايمز”، أن مخرج الفيلم قد أحسن صنعاً عندما ساير كاتب الرواية في دفن أي بعد فلسفي أو تاريخي واكتفى بتسليط الضوء على قصة الأصدقاء الثلاثة والسؤال المحوري الذي تثيره القصة ” كيف يمكن أن تعيش مدركاً أنه لا يتم اعتبارك إنساناً، بل مصدر استهلاك فقط؟”. بينما كتبت صحيفة “لوس أنجلوس تايمز” الأمريكية مقالاً بعنوان “خيبة أمل تجارية لا يمكن إنكارها” وعزت فيه هذا الفشل إلى بضعة عوامل أساسية منها، توقيت إطلاق الفيلم وصعوبة التأقلم مع الرواية والآراء المتضاربة للنقاد وكآبة وتيرة الفيلم وقلة القبول لدى المشاهدين من الرجال.

فيلم غريب يندرج في خانة الأفلام الرومانسية والخيال العلمي، لم يعرض كل المعاني الجميلة والقيّمة التي ملأ بها إيشيغورو روايته، لكنه أظهر أهمية الصّداقة والحب والألم والنّدم والغفران.

سامر الخيّر