ثقافة

فنجان شاي مع الأدباء

نشر جورج أورويل في صحيفة “Evening Standard” عام 1946 مقالاً بعنوان “فنجان لذيذ من الشاي” ذكر فيه إحدى عشرة قاعدة لإعداد فنجان الشاي “المثالي” في نظره حيث أظهر فيها دقة الاهتمام بتفاصيله، ذلك الفنجان الذي لا يجوز إعداده كيفما اتفق بحسب رأيه فيقول: “الشاي ينبغي أن يُشرب دون سكر، أعرف تماما أنني ضمن الأقلية في كلامي هذا، ومع ذلك كيف يمكنك أن تسمي نفسك عاشقاً حقيقياً للشاي ما دمت تفسد نكهته بوضع السكر فيه؟ قد يكون منطقياً تماماً في هذه الحالة أن تضع الفلفل أو الملح! وُجِدَ الشاي ليكون مراً، إذا جعلته حلواً فإنك لن تستطيع أن تتذوق الشاي بل إنك تتذوق السكر، بإمكانك أن تصنع مشروباً مماثلاً بأن تذوب السكر في ماء ساخن ببساطة”.

أفرد هذا الكاتب الإنكليزي العريق مقالاً كاملاً لإبراز تحفة الشاي، في حين قام المؤلف الياباني “أوكاكور اكاكوزو” بتأليف كتاب عنه والذي يعتبر مِن أهم الكتب وأمتعها التي تناولت تاريخ الشاي في الصين واليابان، حيث انطلاقة الشاي من هذين البلدين إلى سائر البلدان ليصير المشروب الأول في العالم والأكثر رواجاً عبر القرون المتعاقبة، يٌعد الكاتب الشاي مشروباً يعبر عن فلسفة شرقية تلتصق بشكل حيوي بحضارة بلاده وتاريخها، بل وبمذاهبها الدينية، ويعتبر هذا الكتاب من أوائل الكتب التي وضعت في “فلسفة الشاي” بشكل “إبداعي بحت”، هدف الكاتب إلى أن يكون الشاي طريق تواصل بين الشرق والغرب في العصر الحديث يقول في إحدى فقرات كتابه الشاعرية:

“ينطوي الشاي على سحر خفي يجعله لا يقاوم، ويمنحه القدرة على إسباغ الإحساس بالمثالية، فالشاي ينأى بنفسه عن غطرسة النبيذ، وغرور القهوة، وعن البراءة المتكلفة في نبتة الكاكاو”.

أما في الصين التي هي منشأ هذا الشراب الأسطوري فكلمة الشاي عبارة عن اسم صيني يُطلق على شجرة صغيرة أو شجيرة لها أوراق وهي دائمة الخضرة، يحتاج هذا النبات لكي ينمو إلى تربة خصبة خفيفة وأن يكون الهواء رطِباً والجو حاراً وأمطار غزيرة، والشاي يحمل معنى كبيراً بالنسبة للصينيين فقد قالوا قديماً بأن هناك سبعة أشياء لا غنى للحياة اليومية عنها وهي الحطب والأرز والزيت والملح وصلصة الصويا والخل والشاي. الشاي هو المشروب الرئيسي في الصين وله شهرة عالمية يحتسيه الناس في بيوتهم وأيضاً في المناسبات الاجتماعية والحفلات، وعلى مدى التاريخ ظهرت تقاليد وأساليب حول تحضيره وتقديمه وشربه ضمن ما يُعرف بثقافة الشاي، ويرجع اكتشافه إلى شخص من عصور ما قبل التاريخ اسمه “شن نونغ” كان ماهراً في زراعة الأعشاب والعقاقير التقليدية الصينية ومن أجل تمييز الأعشاب الطبية التي يمكن للناس تناولها عن الأعشاب الضارة والسامة كان “شن نونغ” يجوب المناطق الجبلية ويختبر الأعشاب بنفسه، وذات يوم شعر بالتعب بعد أن تناول عشبة سامة فجلس تحت ظل شجرة كبيرة للراحة فرأى أوراقاً قد تساقطت من الشجرة مع النسيم، التقط ورقيتن منها ومضغهما فوجد طعمها جيداً فزال تعبه وآثار التسمم فور ذلك، تعجب مما حدث وجمع بعض الأوراق وحفظها لإجراء الاختبارات عليها وهكذا ظهر الشاي كمشروب.

لا توجد دلائل على أن العرب عرفوا الشاي في العصر الجاهلي أو في صدر الإسلام ويقدر بعض المؤرخين أنه لم يُعرف حتى القرن العاشر للميلاد حين ورد ذكره لدى البيروني في كتب رحلاته “بأن الصينيين كانوا يشربون شراباً ذهبياً يسمى الشاي” لكن من المؤكد أنه عرف بشكل رئيسي منذ القرن التاسع عشر، ففي مصر مثلاً دخل الشاي مع الاستعمار البريطاني عام 1882م، ولكنه كان في البداية مشروباً نخبوياً يقتصر على الأسر الأرستقراطية والخديوية وكانوا يسمونه وقتئذٍ “الخروب”، أما في المغرب فقد اشتهر الشاي (الأتاي) في القرن الثامن عشر بعد أن قدم مبعوثون أوروبيون الهدايا للسلطان من أجل إطلاق سراح أسراهم وكان من بين الهدايا أكياس شاي وسكر، أما في العراق فقد دخل الشاي مع الاستعمار البريطاني وهم أيضاً من أدخلوا كلمة “استكان” وهي كلمة عربية اشتقت من المصطلح الإنجليزي “East Tea can”  ومعناها كوب الشاي الشرقي وهكذا يطلق العراقيون تسمية “إستكان جاي” على فنجان الشاي.

ومن الطريف ما كتب “لو تونغ” الشاعر الصيني من حقبة تانغ متغزلاً بالشاي “الكوب الأول يرطب شفتي وحلقي، والكوب الثاني يكسر وحدتي، والثالث يجوس داخلي المجدب، فلا يجد هناك سوى خمسة آلاف مجلد من النقوش الغريبة، الكوب الرابع يتسبب بتعرق بسيط تخرج معه من مسامي جميع مساوئ العيش، وحين أصل إلى الكوب الخامس أكون قد تطهرت، والكوب السادس يناديني إلى جنات الخلد، والكوب السابع… آه، لا أستطيع تناول المزيد! لا أُحسُّ سوى بهبوب النسيم العليل في أكمامي، أين أنت أيها الفردوس؟ دعوني أَمتطي الخيل في هذا النسيم العذب وأَرتحل إلى هناك”.

علا أحمد