ثقافة

أدب الأزمة.. أم أزمة الأدب؟!

السؤال الذي تواتر إلى أسئلة لاحقة، لا سيما في الحروب والأزمات: ما هي المعادلات الفنية والجمالية التي تتوسلها أجناس الإبداع، وهل تكتفي بنقل الواقع كما هو تحت ذرائع الواقعية والصدق الفني، وما معنى النسبية هنا؟
ثمة إجماع لدى من يحقب إبان الحروب ويستبطن أشكال الخطابات الأدبية فيها، على أنها تذهب إلى التقاط اللحظة وحسب، ولابد من أن يمر زمن حتى تنضج في المخيلة هذه الكتابات، أي بمعنى أنها تمر بلحظة اختمار حتى تتشكل وتعطي أُكلها إبداعاً يحتفي بالقيمة والمعنى، وآخرون اكتفوا في -هذا السياق- بالاستشراف فحسب، وتلك طبيعة الأدب الذي يستشرف الآفاق ويستقرئ المستقبل ليبث القيمة العابرة للغة والأمكنة والأزمنة، وربما الشخوص، وبين هذين الرأيين نظل على مسافة من فطنة القول ما بين سلطة التدوين واستشراف المستقبل.
وبالعودة إلى السؤال الكبير في شقه الثاني الذي يحيلنا إلى أزمة الأدب، بمعنى صيروراته الممكنة وسط متغيرات عاصفة، واضطراب خطاب المنهج في الدراسات الأدبية، التي تجتهد مقاربة نصوص الإبداع، فهي إذن ليست محض أزمة في الكتابة، بل على العكس تماماً نجد فيوضاً وتدفقات لا سيما في حقل الشعر، ومن ثم القصة وصولاً إلى الرواية وغيرها من الأشكال الأدبية والفنية، فقد فُطر الإنسان على التعبير، وسعى إلى امتلاك أدواته وأساليبه، وتوسل على الدوام إيجاد شكل ناظم لما يكتب، بل لعل أولى الخطاطات الكتابية كانت مسكونة بهاجس البحث عن المعنى، وفي تراكم ما كُتب ظل الإبداع الحقيقي حارساً للجمال نادراً كالمثال، فيما ذهب الكثير منه لأضغاث الكلام، إذن هي أزمة في المرجعيات والأنساق الثقافية التي بدا وكأن مرجعيات جديدة باتت اليوم تفرض إيقاعها وترتسم في أفق مؤسسة الكتابة بذاتها.
وسؤال الثقافة هو السؤال الجدير بالانتباه والمراجعة، دون عصف بالثوابت بل تطوير لها، لطالما وقر في الرؤى والإفهام والممارسات البحثية النقدية- والمعرفية كذلك، أن المتغير هو الثابت الوحيد، وعلى هذا انفتحت الكتابة على قارئها الضمني والمتخيل لتصطفيه قارئاً نهماً، قارئاً يعول عليه إنتاج المعنى سواء بذائقته الفردية أم بذائقته الجمعية، ولعل الثقافة أيضاً هنا كمرجعية أولى، ينبغي لها أن تخصّب الكتابة وأن تأخذها إلى آفاق أرحب وأوسع، خارج راهينيتها وخارج التعلل بالنسبية وحدها، إذن فمن خطاب الأزمة إلى أزمة الخطاب يبدو الحوار وسائر السجالات لافتاً، نظراً لما يقدمه في طبيعة رؤيته من محاولات في تجاوز الراهنية إلى التأصيل وإلى تنكب التحديث في التفكير والسلوك، وتهيئة المجال لاستحقاقات الإبداع الذي يتجاوز بقدر ما ينفتح على المغامرة، ويغاير بقدر ما يكسر الراكد والمستقر والناجز، وهذا يعني في المحصلة أن الأدب وبأجناسه المختلفة هو استحقاق لما بعد أكثر منه استحقاق للراهنية التي يسعى لاختراقها، وإرساء قيم النص معاصرة وتحديثاً وتنوعاً وتعدداً في الخطابات المحايثة للواقع، لكنها التي لا تشبهه على الإطلاق، بل تبني عليه لتخلص إلى وقائع جديدة، تسهم في انتعاش حركة الأدب وفرز الغث من السمين فيها، ذلك أن للصيرورة خطابها، إذ هي التغير والإدهاش وهما سمتان إضافيتان لها، فضلاً عما تتوسله مؤسسة الكتابة بذاتها من معايرة ثيمة الانفتاح لتكون في سياقها الطبيعي، أي بمعنى أن فرضية القارئ المولد ليس للتأويل فقط، بل لأشكال جديدة من الخطابات في حقل الاستقبال، سيعني أن الإبداع هو القيمة العابرة والمخترقة، وهو الكثافة الجمالية التي يتوسلها المبدع ليجسر الهوة في مسافات القراءة واستعادتها بالمعنى المعرفي، إنها استعادة للوعي النقدي بوصفه الحاكم على تلك الخطابات، والمولدة لممارسات نقدية أكثر وعياً بالنص وانتقالاً بسؤال الثقافة خارج الأزمة إلى أسئلة الحياة وجدلياتها الكبرى.
أحمد علي هلال