ثقافة

ناديا إبراهيم في “لوحات موجعة من الوطن”: مجدت أبطالها وانتصرت لهم ولها

“ما كان لروحي وعقلي أن تسكن آلامهما، وقد عصفت بهما الريح بأشجار الغابات، حين رأيت الخراب، والتدمير، والأذى، والمخاوف، والوحشية تجتاح أرض سورية الحبيبة!”.
هذا بعض ما سطرته الكاتبة ناديا إبراهيم على غلاف مجموعتها القصصية، كعتبة مهمة تتكامل مع عتبة العنوان “لوحات موجعة من أرض الوطن” الصادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب لعام 2017. فما كتبته إبراهيم في اثنتي عشرة لوحة ما هو إلا دواء لمرض موجع ألّمَ بروحها وروح النسيج السوري، وهي ربما دعوة لأن يجترح كل منا علاجه بنفسه في زمن لم يبق من مساحة بيضاء إلا استبدلت بالأحمر والأسود.. لتكون الكتابة محاولة لإعادة التوازن والنهوض من الرماد إلى النور.
إنها نصوص ممتلئة برائحة الموت والحياة، سجلتها الكاتبة عبر لوحاتها التي صرَّح العنوان بأنها لوحات لا تحمل أفراحاً أو أحلاماً، بل لوحات متسربلة بالألم والخيبات الموجعة.. هي الحرب بكل قسوتها ووحشيتها تخرج لنا من الصفحات لنكون في مواجهة لها تاركة رعبها في وجوهنا وأرواحنا، وفي الوقت ذاته مستفزة إرادتنا في البقاء، في تنافس ندخله لا شعورياً.. فنحن أبطال هذه الحياة وعلينا أن نليق بها وبأصل وجودنا ألا وهو الوطن، لتؤكد ما سطّرته على غلاف المجموعة: “.. كنت أحاول أن أطفئ حرائق القرى والمدن السورية العزيزة، مثلما كنت أطفئ بها حرائق روحي وأنا أرى يد الحرب السوداء تمتد لتأخذ أبي وأختي، والكثير من أقربائي وجيراني. كان عليّ أن أكتب هذه القصص قبل أن أصاب بالجنون.. لعلها كانت نجاتي!”.
كل ذلك عبر صور مفعمة بالانتماء للوطن، متفاعلة مع الأحداث اليومية للحرب التي عاشتها ووعتها وآختها أيضاً.. ناقلةً مجريات الحرب في كل من الغوطة والضاحية والمخيم بأسلوب مباشر وواضح، فاردة المساحة الأكبر للمخيم الذي عاشت فيه ليكون فضاءً رحباً لمجموعتها.. والشاهد الحي على قبح الحرب، فهي ابنة هذا المخيم، أطلعتنا على أسراره الموجعة ناقلة بأمانة تسجيلية ما فعله المرتزقة فيه وبأهله، ليختصر هذا المكان السوري الفلسطيني كل سورية، فالحرب متشابهة على مساحة الوطن.
وإن حملت المجموعة عنوان لوحات، لأن كل قصة لوحة مكتملة بذاتها، أبدعت في رسمها بدءاً من العناوين: “غربان الليل- الخبز الممزوج بالدم- عروس الغوطة- حال الموت- في الرمق الأخير-لكل نبضة قلب ثمن…” وصولاً إلى المتن الذي حملتّه ذاكرتها كفلسطينية أولاً وسورية نبتت على هذه الأرض ثانياً، وذاكرة أهل المخيم بدءاً بـ ” تهجير النكبة- والـ67 ” وصولاً إلى هذه الحرب اللعينة التي قسرتها وكل أهل المخيم وباقي المدن السورية على هجر بيوتهم ومكانهم..
لقد أبدعت الكاتبة باستحضار ذاكرة أبطالها والتي تمثل ذاكرتها أيضاً، فكانت صادقة وممتلئة بالحب لهذا المكان الذي يمثل الوطن ككل.. ولذاكرة شعبها، فهاهي تتقمص وجع شما العيسى في اللوحة الثانية بقولها: “لكن الحرب الدائرة، والموت المفاجئ ودمار البيوت والنفوس أدخلها في خيبات كثيرة، حتى اليوم لم تستطع أن تنسى طفولتها الحزينة يوم خرجت من وطنها الحبيب فلسطين بعدما طردهم الصهاينة واستولوا على أراضيهم وبياراتهم وأملاكهم بقوة السلاح..” ص22
وفي اللوحة الرابعة ترسم هيلة عشرات السيناريوهات في رأسها وهي تفكر بوالدتها العجوز الطرشاء، لنسقط معها فجأة في جب الذاكرة: “توقف نظرها فجأة على الرزنامة المعلقة على الحائط وعليها صورة امرأة ترتدي الزي الفلسطيني المطرز بالخيوط الحريرية الملونة، وعلى رأسها تحمل سلة من القش ملأى بالليمون والبرتقال الفلسطيني اللذيذ، ولها نظرة حزينة تخترق القلوب، فبكت نفسها، ووطنها الذي ضاع في رمشة عين، تحسرت على حياتها، وعلى آلاف من أبناء شعبها الذين شرّدتهم الحرب مرة ثانية على يد مجموعات المرتزقة والمتمردين، الذين سرقوا المخيم، ونهبوا وحرقوا، وقتلوا العجائز والأبرياء من النساء والأطفال، وتركوا من تجرع علقم اللجوء في بيته يتضور جوعاً وعطشاً…” ص38.
هي الحرب ذاتها، فما بين عام 48 والألفية الثالثة لم يتغير شيء سوى أن الأعداء ازدادوا وحشية ودموية فهذه أم علاء في اللوحة التاسعة تستذكر خروجها من المخيم وهي تدخله بقلب الأم بحثاً عن ابنها: “… فجأة كبرت غصّتها عندما راحت تتذكر آثار تلك الليلة الرمادية يوم خرجت مع أهل حيّها من أبناء المخيم الشرفاء تحت وابل القذائف، وأزيز الرصاص، والمعارك المشتعلة في الجهة الجنوبية للمخيّم، يوم ضاعت معالم المخيّم وغرق في الدخان، والصراخ والعويل، كانت ترى الناس أمامها يتراكضون خلف بعضهم بشكل أرتال كأنهم في ساعة الحشر، بكى الأطفال، وتعثرت العجائز بالركام المتناثر على الطريق، وانتحب الرعب في النفوس الفارة من جحيم الموت، دعت بقلب مكلوم أن ينتقم لها الله من هؤلاء الجناة، ومن ورائهم قوى الشر الأنذال والصهاينة الذين تلطّخت أيديهم بدماء الأبرياء من شعبها”. 87.
حافظت الكاتبة على جذوة المقاومة، إذ نلمس في بعض القصص رغم مساحات الألم، والحزن والموت نهايات مشرقة، ففي اللوحة الأولى “غرباء الليل” تقدم الكاتبة صورة لواقع الكثير من أبناء الوطن ممن غرر بهم وأخذتهم أوهامهم المجنونة إلى أقصى القبح، لتوقظ بصلابتها ذاكرة أصغرهم سناً -وقد كان طالباً من طلابها- من مجموع اللصوص الذين تكاثروا عليهم هي وزوجها وابنها، ليطلق صرخته كالرصاصة على مسمع الحاضرين كقائد لا تنتهك له حرمات: “اتركوا الآنسة بحالها يا جماعة، لا تفضحونا مع أهل الضاحية!” ص14.. لتكمل تفاؤلها في ختام القصة حيث خلاصهم يعلنه قولهما: “ها هو الفجر يطلع!” ص16
كذلك يتجدد هذا الإشراق في اللوحة الخامسة، تختم القصة: “كانوا ثلاثتهم يرتمون على الأسرة في مشفى الأحلام، وبين الغيبوبة والحلم، سمعوا صراخاً لمولود جديد!” ص54. إنها بكل بساطة تؤكد استمرارية الحياة وإن اختلفنا في هذه اللوحة مع الكاتبة فيما يتعلق بالزمن وضبطه..
في اللوحة العاشرة تمسكنا ناديا من القلب وهي تفرد للفتى بعطة بطولة استثنائية، وهو الفتى بهلول، نصفه عاقل، ونصفه الآخر مجنون.. -شخصية إن فكرت الكاتبة يوماً الاشتغال عليها سنكون أمام شخصية أدبية مميزة.. آمل حقاً أن تعطيها انتباهها-  بعطة الحاوي كما تطور اسمه تستغله الجماعات المسلحة ليكون مفخخة ضد حواجز الجيش، إلا أنه يضغط على الزر وسط الحزام الناسف، لتطير روحه الهادئة وتتناثر جثث المرتزقة.. إنها نهاية مفتوحة على الأمل أن السحر سينقلب على الساحر إذ تناقلت وسائل الإعلام المحلية خبراً مفاده: “مبروكاً يقتل عدداً من المرتزقة الغرباء بحزام ناسف في طرف مقبرة المخيم الجنوبية” ص102.
لتكون لوحتها الأخيرة “مطاردة في زمن الحرب” ما هي إلا مطاردة الكاتبة للحياة، والقبض عليها في زمن بتنا نتعثر بالموت، إذ يصدح ضمير المتكلم بحكايتها التي تشبه حكاية كل امرأة في ظل الحرب، مقدمة فلسفتها في مقاومة الموت والخراب، ومطاردة الفرح، لذلك نجد البطلة تقول: “وصرت أرتدي الثياب الجميلة، وأضع المساحيق والإكسسوارات، خرجت إلى الدنيا من جديد، وحمدت الرَّب أنني لا زلت امرأة، وصرت كلما أخرج للتسوق يقفز قلبي من صدري مذعوراً، وأرتعش كلما مرت أمامي سيارة فضية اللون تلمع تحت وهج الشمس الصباحية”. ص120.
لقد أبدعت ناديا في التقاط اللحظة وتوظيف تقنيات السرد الحديث لخلق نصها الذي يشبهها وحدها، مجدت أبطالها في تحديهم لغول الحرب والمقاومة حتى الرمق الأخير.. منتصرة لهم ولها، فالمجموعة تحفل بالكثير الذي يستحق القراءة والإضاءة إذ أسقطت تجربتها في الحرب لتكون تجربتنا، إنها بحق كاتبة ممتلئة بطاقة العطاء ولذلك ننتظر منها الكثير.
عبير غسان القتّال