ثقافة

بذور الحزن تنبت السعادة

بعيداً عن المنعطف السابح في السماء، كان هدوء الأيام الربيعية الأولى الشفاف، وبهاء الزرقة الشاحبة والشجر العاري الأسود، وأوراق العام الفائت البنية الراقدة تحت الشجيرات وبراعم البنفسج والسوسن البري يخيمان هنا، وهذه البقاع الجبلية الصامتة والمنحدرات التي بدأت تخضر لتوها طارحة تعبها من الثلج والصقيع، كان الهواء هنا طرياً وصافياً كالبلور، كما يكون في أول الربيع عادت إلى خاطري ذكرى تسللت أحداثها كالتالي:

في يوم تشريني بارد قليلاً مع أواخر الورود الزهرية اللون، وأواخر زهور عباد الشمس الأصفر وشجيرات العنب وهي تتدلى مثل الشراشيب من زوايا البيت، جمعت بعض الأوراق الصغيرة وقد طارت جميعها عن شجر الصفصاف، والأشجار تقف عارية تنسل السماء الفيروزية من فرجاتها، والماء تحتها شفاف صقيعي كأنما زاد ثقله، إنه يطرد كسل الليل بلمح البصر، اتجهت نحو الغرفتين المنبوذتين لأضع الأوراق في مجموعتي الخاصة ورأيت مظهراً أصابني بدهشة، كانت تنهمر آلاف العصافير كالمطر، كم هو لذيذ أن أحس نفسي ضيفاً في هذا العش تحت سماء الخريف الفيروزية، لكن الريح لم تهدأ، كانت تهز الحديقة، وتمزق أعمدة الدخان المندفعة من الغرفة المأهولة بلا توقف، من جديد تسوق خصل الغيوم الرمادية المشعثة الشريرة، كانت تركض مسرعة وعلى ارتفاع منخفض، وكالدخان تحجب وجه الشمس فينطفئ وجهها وتنغلق النافذة المفتوحة في السماء وتصبح الحديقة خاوية، ومن جديد يتناثر المطر في البدء حذراً ثم يتكاثف حتى يغدو مزيجاً من سيل وعاصفة وظلام، ها قد حلّ ليل يوجف القلب، في الصباح كانت السماء خفيفة فسيحة عميقة والشمس تضيء من طرفها والدروب الموطوءة بعد المطر ملساء، مرت عجوزاً أعرفها أخذت تلملم أطراف حديثها الذي بدأته عن حياتها وابنها الذي ربته وحرمت نفسها من أشياء غالية كي تلبي رغباته، وعندما شبّ رحل مع زوجه، لم يعد يراها في العام أو العامين إلا مرة أو… تحدثت عن نفسها التي سكنتها الوحدة وقد أصبحت بين جدران هرمة مثلها، تقول: الحياة قطار نحن راكبوه ولكل قطار محطة يقف عندها ونحن محطتنا تلك النهاية التي لا رجوع بعد الوصول إليها، قالت: كان ولدي مغرماً برحلات الصيد فلم أمنعه من ممارستها، يستيقظ عند الفجر يتنشق هواءه الحاد ورائحة الحديقة المخدرة طوال الليل، كانت الأوراق المسودة ملتفة على نفسها من البرد تخشخش تحت جزمته والريح تزمجر وتئن في فوهة البندقية عندما تهب، يعود في المساء وحقيبته مليئة بالطرائد وثيابه ملطخة بالطين ومبللة بالمطر، كان يبدو كالطفل، حينها أوقد النار كي يتدفأ ويغسل ثيابه، يعود للذهاب في يوم مثلج، يركض مسرعاً نحو الغابة، كانت السكة المغطاة بثلج ذائب تركض صاعدة إلى الأعلى والسرو والصنوبر تسير بمحاذاة الجروف، كانت حينها الغيوم تحوم بهدوئها الثقيل فوق الجبال العابسة، ومع هذا البرد الذي يلسع الوجوه كالدبابير يحل المساء، أقف قلقة انتظره، تقذف إلى الأعلى بندقية وحيدة الفوهة، ثقيلة كعتلة، وبدورة سريعة تطلق النار فيندفع إلى السماء دوي مصم، لهب إرجواني يعمي النجوم للحظة ويطفئها، والصدى النشط يتدور مقعقعاً ويتدحرج إلى الأفق بعيداً، ويتلاشى في الهواء الرهيف النقي، حينها تطمئن وتخبئ كفها في كمها وتركض نحو الداخل.

تمر الأيام ويأتي الربيع، خرجت وابنها إلى المرج ليتناولا الطعام، تعرفا بابنة عائلة أحبتها العجوز، ولم تكن تدرك أنها ستبعد ابنها عنها، لم تعد تستطيع كبت دموعها وهي تقول: سمعت أن من يزرع بالدموع والتعب يحصد الفرح والسعادة، لكني لم أحصد إلا الدموع والعذاب. بقيت أياماً أفكر في قصتها، ومرت الأيام.. عدّت إلى الغابة وكان الضباب يخيم على المكان، فجأة تورد وذاب وانتشر الضياء والدفء في الأعالي ولاح في السماء عبر دخان الغيوم شيء من فرح ناعم راح ينمو ويتسع، وفجأة تألقت الزرقة وبعيداً في الأفق اخضرت السفوح المتموجة، هبت من الشمال نسمة ناعمة فمضيت نشوان بها إلى الجروف لألقي نظرة على البحر، فتبدى لي أنه لا يلزم الإنسان في هذه الحياة سوى الربيع وحلم السعادة، أما المرأة فقد نبتت من بين أحزانها ورود بالغة الجمال، لقد نبتت بذرة الصبر والتفاؤل لديها وأمدتها بعطر الحياة ورحيق الحب والسعادة.

تغريد الشيني