ثقافة

“عصام عبه جي”.. في ذكرى غيابك

على واحدة من شاشاتنا المحلية تعرض السلسلة الكوميديا الاجتماعية مرايا والتي يحضر في معظم أجزائها الفنان الراحل “عصام عبه جي” وهي فرصة للحديث عن هذا الفنان الإنسان، الذي غادرنا منذ بضعة أعوام ولم يزل ذكره عابقا بين الجمهور الذي أحبه وكأنه لم يرحل.

في تسعينيات القرن المنصرم، وبينما ركاب السرافيس والباصات العامة والسيارات الخاصة والعامة أيضا، يستمعون إلى صوت الفنان الكبير الراحل “عصام عبه جي”-1949-2014-، في رحلتهم نحو مشاغلهم اليومية على اختلافها عبر الراديو، من الطالب إلى الوزير” طالب وموظف وبنّاء، مدير ورجل مطافئ ومهندسة أو شاعرة عاطلة عن الشعر، سفير أو وزير الخ”، وبينما ربّات المنازل يكنسن الليل عن عتبات بيوتهن، ويتنفسن شيئا من دعة شبه الأمل، التي ربما تأتي بدعاء ثقيل العتاب، كان شيئا من الضيق يحل عن تلك الصدور التي تفيق وتنام على الهم كما يقال، وهي تنصت إلى الدراما الإذاعية التي حملت اسم “يوميات عائلية” وكانت تقدم صباحا على إذاعة دمشق، بصوت الراحل “عبودي” كما كانت تناديه شريكته في العمل، “عبودي” الذي ينقل هم المواطن البسيط وتفاصيل حياته اليومية، يذهب إلى مؤسسة الكهرباء ليستعلم عن سبب ارتفاع فاتورة الكهرباء عند ناس وناس وإلى دفع فواتير الماء ولجلب حاجيات المنزل والأولاد، يذهب إلى السوق ويسأل عن الأسعار ويشكي ضيق الحال، وما يحدث معه خلال ذلك من مواقف “تراجوكوميدية” سوف ينقلها عبر صوته وبشيء من النكتة المبكية والساخرة إلى الناس وإلى المسؤولين، دون سقف رقابي إلا سقف الضمير، حينها كان كل من يستقل وسائل النقل محليا ومن هم في البيت،يستمعون إلى تلك الدراما الإذاعية بشغف، نظرا لما تقدمه من حكايات من الناس،ومن بينهم وبين أنفاسهم حتى، ولما تحمله كما سلف من همومهم وأوجاعهم في مختلف مناحي الحياة، ولو لم يكن الجمهور مقتنعا تمام القناعة بما يقدمه هذا الفنان الفذ بملامحه الصوتية فقط، الصوت الذي يطوعه كيفما أراد، لما تابع الجمهور الاستماع إليه ببساطة لأيام طويلة فالفنان “عصام عبه جي” لم يأت إلى التمثيل من حيث يتم حشو طلابه بمعلومات لا تفيدهم طالما عينهم على التلفزيون فيما يدرسون المسرح، ولم يدعمه فلان أو يرسله علتان، لقد جاء إليه بعد أن خاض في العديد من الأعمال المسرحية، وما تلاها من أعمال درامية سينمائية وتلفزيونية لا وجود لفن المونتاج فيها، إنها على الهواء مباشرة، وهو الآن ورفاقه أمام الجميع، والغلطة لا تُصلح أو تقص أو تعاد بل تبقى على حالها كما قام بها صاحبها، وسواء كان “عبه جي” في الإذاعة أو المسرح حينها، فهو يعلم وبدراية، كيف يستطيع أن يجعل صوته هو ملامحه المعبرة، وهو أداته الأكثر إقناعا ومصداقية، والتي سوف تضطر مسؤولا ما، إلى اتخاذ تدابير معينة نحو تخفيض ارتفاع سعر مادة استهلاكية يومية للناس، أو أن يهرع مسؤول آخر إلى مشفى حكومي ليطلع على الواقع الخدمي فيه، بعدما وصله من “عبودي” أن ثمة مشكلة في المكان ويجب حلها حالا.

ولم تقف حدود إبداع هذا الفنان السوري العريق هنا، فالرجل صار كما هو متعارف عليه، واحدا من أهم توابل الدراما السورية، ووجوده في أي عمل كوميدي أو غيره، سيضيف على هذا العمل نكهة خاصة، معجونة بتوليفة من تعابيره المتوائمة وصوته كما حركة جسده، دون بهلوانية أو “زحلطة” بقصد الإضحاك الممجوج، حتى أنه كان متواجدا في معظم مفاصل وأعمال الدراما التلفزيونية، بدءا من (زقاق المايلة) إلى (حارة القصر) ومن سلسلة “مرايا” بأجزائها، إلى أعمال البيئة التي كان لتواجده فيها، حضورا خفيف الظل، لطيف الإطلالة، وسيجعل الجمهور يشعر ولو دون قصد، أنه سيكون على موعد مع جرعة من الكوميديا التي أحبها في مجموع الكاركترات التي قدمها هذا الرجل في أي عمل يظهر فيه، وكان في جلها بارعا، فهو يمثل كما هو معلوم، لكنه يعمل بطاقة عالية، ليرى الناس أنه لا يمثل،وهكذا شاهده الملايين من السوريين والعرب في الكثير من أهم الأعمال الدرامية السورية منذ سبعينيات القرن الماضي، حتى الفترة التي سبقت غيابه عن الشاشة التي أحبها وأحبته بحجة الموت، شاهدوه وتابعوه وأحبوه، ثم ودعوه بنبل كما احتفوا فيه بنبل.

الراحل “عصام عبه جي”واحداً من عباقرة الزمن الجميل، وأساتذة العفوية التي لا تدرس في أكاديميات فن التمثيل، عدا عن كونه ذلك الصوت القوي الهادر، وأحد عمالقة المسرح القومي بعصره الذهبي، وذلك في حضوره الاستثنائي والكاريزما المسرحية المميزة لهذا الفنان السوري العتيق، الذي تمكن من حرفته الإبداعية حتى صار واحدا من معلميها الكبار، ودون أي مبالغة في ذلك، لا في حياته اليومية، أو في حياته العملية، فلقد توافرت في شخصيته المتواضعة،دقة الإحساس وقوة التركيز في الأفكار وقوة التذكر للحركة الجسمانية،يعيش في الدور ويتسلل تحت جلد الشخصية التي يؤديها فتصبح هو، كما كان صاحب مقدرة على إيجاد العلاقات الذهنية ومنطقية الإحساس والقدرة على التحليل النفسي لهذا الدور أو ذاك، فالممثل إذا لم يكن لديه معين لا ينضب في داخله من الإبداع، ليخرج منه هذه التفاصيل القيمة عند قيامه بأحد الأدوار، فهو ليس ممثلا ببساطة!.

“عصام عبه جي” كان الممثل المخلص للدور الذي يؤديه،يعيش في مجتمع وزمن الدور، بإحساس صادق به، محاولا الوصول إلى أكبر درجة من الإتقان في تأديته للشخصية، أيضا التطور الفني المميز فعلا الذي كان يصبح أكثر تعتيقا، كلما مضى “عصام” في عمله الذي أحب أكثر فأكثر، فتطور قوة التخيل لديه وتشابكها مع  الدور الذي يلعبه، جعله من الفنانين الذين لا يمكن لأي كان أن يحل محله، وهذا العمل والبحث الدؤوب عن مفاتيح الدور الذي يعمل عليه والنتاج البديع الذي يخرج فيه، كان غالبا ينبع ويتولد عند هذا الممثل من داخله، ومن سؤالين يضعهما نصب عينيه: ماذا أصنع؟ وكيف أتصرف؟فالممثل هو من بين القلة من الفنانين الذين لا يمكنهم فصل وسائل التعبير لديهم عن أنفسهم، لأنهم يبدعون باستخدام أجسادهم وأصواتهم وملامحهم، عدا عن ميزاتهم النفسية والعقلية، التي كانت تتكامل فيما بينها عند “عبه جي” حتى صار كما أسلفنا، من أهم توابل الدراما التلفزيونية المحلية.

أما عن حكاية نجوم الصف الأول وهواجس هذه التقسيمات العبثية للفنانين، فلا نعتقد أنها كانت تشغل بال طودا كمثل “عصام عبه جي” الفنان والإنسان أولا وأخيرا.

تمّام علي بركات