ثقافة

لوعة الغربة

هذا الفضاء الشاسع وهذا الليل السحيق، والكون الذي يغلفنا بحزامه الأبيض البني اللون، والغروب، ذاك الوشاح الشفاف الذي ينعقد في السماء كأنه يطوق البيوت على مد النظر، وأشياء أخرى كثيرة تذكره بسؤال لطالما راوده، ترى هل هو باقٍ هنا في الغربة، في اللوعة والشوق إلى رؤية سهوب بلاده الجميلة، أم سيعود إلى حيث موطن أهله وأجداده، إلى حيث يرقد والداه وإخوته، هذه الأشياء تذكره بحلمه المتكرر حيث يرى نفسه قابعاً على التلة التي أقيم عليها بيت أهله، يبقى شارداً متأملاً فرحة الغابات مع الوحول الكثيفة في ركام غضار غابة عذراء جديدة مجهولة، حيث يطلع النهار مضيئاً كحلم، حينها يتنحى الخيزران ويظهر كأنه عظيم، يرقب الطبيعة التي بقيت طوال أجيال خضراء صامتة، تغني مع الطيور والألوان. تلك الطبيعة التي استمر تأرجحها بين النبات وغيره، أخرجت في الوقت نفسه الزهور والنحل وكل شيء مثير للنظر والشرود، كما يبقى متأملاً حقول القمح المزركش بالشقائق و… حينها يمسك حزمة الأعشاب المحتفظ بها من سهوب بلاده يتنشقها لتبعث العبق والطيب، فما دامت هذه السهول ماثلة في مخيلته فإن السحر والخيال يتجددان في نفسه، كان يرقب المطر المنهمر كإعصار، وقصف الرعد الذي ينذر بقرقعته الرنانة، في حينها تمزق البروق ظلام الليل، وخلال هذا الصخب ينقض تهطال الأمطار الشديد.
ينقض لمهاجمة الأرض، في البدء مرّ فوج الأمطار متأججاً مشعثاً على شكل سيل عارم، جعل كل شيء مخضر. وجعل العالم ملون بلون أخضر، هنا يخرج ليرى قوس قزح الذي ستهبط كل ألوانه نحو الأرض وتلامسه. يعود ليحدث نفسه: هل يجب أن ننتظر في هذا المكان صارخين من شدة اليأس، ساكبين القلب مع الدموع فلم أعد أطيق الانتظار، لقد كان فقيراً عاطلاً عن العمل وكان الفقر يحبب إليه الحياة، ويبعده عن كل شبع، ويغذيه بالآمال، وكانت البطالة تجعله يفكر في الحياة التي لا تنتهي في الحياة المعكرة للصفو، المثيرة لوحشية الغربة التي تحرقه بنار حبه وعشقه لوطنه وأرضه. يقول: ترى إذا لم يمنحنا الحب ابتسامة طفل؟ أو لم يلون أشجار حياتنا بألوان الورد؟ وإذا لم يمسح قلوبنا من خيوط الحزن الرقيقة الغامضة؟ فهناك ما ينقص. لقد قيل تيار جارف وقيل دفقة من الوجد ورعشة من الورد واحتراق من الحمى، وأرق وقلق وحنين إنه الحب. حب الوطن والشوق إليه، الحب وفيه كل شيء من العذاب. لقد ولد على كتف الزمان، إنه همسة تصل جبروت الأرض وجبروت السماء. لقد امتزج بنهر الحياة المنساب من نبع الولادة إلى مصب الموت، فكان صرخة الألم والأمل في داخلنا إنه الحب والحنين إلى الأرض، إلى الحياة الكريمة، فلحظة واحدة تمتد بعدها أفراحنا مثل شجرة الورد أو تمتد بعض أحزاننا مثل شوك الأرض، يقف فجأة أمام البحر حيث كانت أمواجه تهاجم الشاطئ وتلاطم الصخور بقوة. البحر الذي يردد صدى صوت أحبائه وأقربائه، والريح والموج أيضاً كانا يحملان من أطراف العالم هذه الأصوات الحزينة جداً، الرقيقة، الحنونة، أصبح مغترباً جداً، لكنه يقول دائماً: بأن هناك نجم الحرية الذي سيهوي ليُدفن في أرواحنا السجينة، وحينها ستتحول أرواحنا إلى نور، وستذوب كاملة في النجم الوهاج، الذي سيصبح أكثر وهجاً متحولاً إلى شمس نغم أبدي ينير الكون.
آه ما أجمل طبيعة الوطن، ودفء الوطن، وأمان الوطن الذي لا يدركه إلا كل من ابتعد واغترب عن الوطن.
تغريد الشيني