ثقافة

رسائل ليست من تحت الماء..!

مخطئ من يعتقد أنّ الرسالة تختلف في إيقاعها وتغريدها وطرق وصولها إلى المتلقي.. ويبدو أن “زاجل” التجربة قد ربط في توازنه لفافة يفترض أن يكون فيها العامل الوجودي أساساً.

لفافة تختصر فلسفة متوهّجة، تحتكم للمخزون المعرفي والموروثات الذاتية منها والجمعية.. في رحلة التحول من مفردات باتت بائسة إلى نتائج بنيوية استفاقت بصدمات “كهروفنية” تحريضية لم تُعِقْ ذاتية التجريب، بل أعادت نبض الخلق مجدداً.

الفن، انفلات من إطار موسوم بتكشيرة رمزية لا تأبه للأبعاد.. تكشيرة تعيد الاختلاط المقعّر، وتسمح للزوايا بتدوير نفسها كخروج عن المألوف.

تنبثق الحالة أحياناً من ذاكرة “زمكانية” وفق آلية استرجاع الصور بخصوصية إنتاجية جديدة دلالية ترتقي بسموٍّ إلى جدارية تُقرأ بعين قابضة على رؤى، وآفاق لا تخلو من التمرد الذهني والتماهي مع مكونات وأغراض تستند إلى الحسّي، وتلامس غير المتوقع بمشهدية لا تخلو أيضاً من ضجيج وحماسة، كأي اختراق يقف على ناصية دفاقة بالتناص، والاستجابة لمراجع النظائر وفق مقارنات باتت مساطر لقياس التجارب.

هنا، تتضافر جهود الفكري والنسق الدلالي الحسّي في ترتيب النص الفني ووحدته البنائية دون إغلاق الباب أمام التقويم المغاير.

النسيج الفني، حياكة إشراق وتصور المعقول، إيحاء وحافز، توصيف يبرم عقد الثنائيات المتخيلة في صراع بدأ تاريخياً بين الأسود والأبيض، وصولاً إلى عناقيد لونية تستظل بصميم الحياة، ومقابلات وأنساق تعيد وهج الأبعاد، وتعيد طرح الممكن كهاجس انفتاحي ليرتقي المعنى أكثر.

وما أكثر لملمة الجهات.. أفعال يرتكبها الفنان الناجي من خراب متوارث أحياناً، ومن تابوات أفقدت الروح بوصلة الأمان، ولكن، تبقى الحالة تتكئ على التصور في تلازم ممزوج بين الفنان وقيمة التجربة دون تجنيد المفردات.

يقول أبو القاسم الشابي في إحدى رسائله: “إنَّ الفنان يا صديقي، لا ينبغي أن يصغي لغير ذلك الصوت القوي العميق الداوي في أعماق قلبه.. أما إذا أصغى إلى الناس وما يقولون، وسار في هذه الدنيا بأقدامهم، ورآها بأبصارهم، وأصغى إليها بآذانهم، فقد كفر بالفن وخان رسالة الحياة..”.

إذن، هو النداء الناظم الذي يتأتى من حرية الاختيار أولاً، ثم من النطق بدءاً بالتجريد وصولاً إلى الإطار الشكلي وسياقات التوليف والتأليف.. نداء واسع الطيف يفرد بساطه على محمل الـتأمل..!

أما خيانة النص، فهي تحدّ موصوف لضربات الحبر وذاكرته، أو الطيف النفسي.. وهذا ما يُربك عصب الوحدة النصية في اللوحة التشكيلية، ويجعل الغموض عنواناً مُربكاً.!

تختلف التوصيفات في فهم النص الفني.. قد يكون المبرر مستنداً إلى قرائن وضوابط، وقد يكون العكس هو الصحيح كحالة مستقلة يرى صاحبها أحقيته في طرح مفاهيم جديدة بانزياحات مغايرة، فيها من الحيوية ما يكفي لبناء منظومة مرجعية يتقاسم فيها الطرفان متعة القراءة المعتقة.

أسباب كثيرة أصابت آلية التفسير بالصدأ، وبقي التمايز عنواناً للمثول أمام محاكم الرؤية والرؤيا، فهناك من يطارد الجديد، ويلقي عليه اللوم، كي لا يخرج من وراء قضبان الطروحات السابقة.. وهناك من ألبس الممكن ثياباً تليق بالمعقول..!

إذن، يبدو أن مفهوم “غرامشي” في مقولة:”كل الناس مثقفون”، أتت لتعيد رسم الدوافع النفسية في قراءة المحيط.. فما بال المتلقي الفني الذي حولته المتابعة إلى مخزون ناهض بالمعرفة والمجالات كافة، مزركشاً باستعارات نتاج السابقين..؟

تتفاعل المكونات في مناخ يبعث على القلق في أغلب الأحيان، وينعكس على القابلية والذائقة في مسألتي الاقتناع والقبول..!

أصبح واقع المضامين عسير الأسباب، لا يخلو تفسير من بعض الأشواك.. هي غير الأشواك التي علّمت الفيلسوف “طاغور”.. فحتى الركام منحوه الصفات، وشرحوا النقطة وفلسفوها.. فباتت اللوحة تعاني الأمرّين، من حواملها، ومن تأطير ممنهج وصل إلى ذائقة المتلقي..!

نحن الآن أمام ظواهر فنية متعددة الأهواء، تلعب الريح أحياناً دوراً كبيراً في استمالة اللون وتركيبه، وتلعب أغراض أخرى دوراً تقدمياً بتواترٍ حذرٍ يريد شرعنة الجديد دون المساس بأثواب الأقدمين، ولكن مهما تكن الثغرات في المقدَّم حالياً.. يبقَ الدفاعُ عنه حقاً مشروعاً..!

رائد خليل