ثقافةصحيفة البعث

الصباحات العشرة

الحضارة الإنسانية في تطورها ارتقت من خلال الأخذ والعطاء والتأثير المتبادل, ففي الوقت الذي كانت فيه أوروبا تغط في ظلمات العصور الوسطى, كان الشرق مهد الحضارات, فقد عاشت أوروبا عصوراً من الظلام حتى هبّت عليها رياح الثقافة العربية الإسلامية, وانتقلت هذه الحضارة بكافة روافدها الثرية, وأعطى العرب لأوروبا علومهم في الآداب والفلك والكيمياء والرياضيات والعمارة وغيرها. فلم يكن العرب جماعات مهاجرة, لكنهم كانوا محاربين فاتحين أصحاب رسالة اختلطوا وامتزجوا وتزاوجوا ونشروا اللغة والحضارة والعلوم, ونشأ هناك جيل كامل ظل يحمل الرسالة. وعندما أعطى العرب أدبهم لأوروبا أعطوه شعراً عربياً خالصاً, لم ينتقل الشعر إلى أوروبا عن طريق الترجمة, إنما عن طريق انصهار سكان جنوب غرب فرنسا وجنوب إسبانيا وصقلية في بوتقة الحضارة العربية, واقترنت بموضوعات الأدب العربي أسماء طائفة من عباقرة الشعر في أوروبا خلال القرن الرابع عشر, وثبتت الصلة بينهم وبين الثقافة العربية منهم: بوكاشيو ودانتي وبترارك الايطاليين وشوسر الانكليزي وسيرفانتس الاسباني ويرجع إليهم الفضل في تجديد الآداب القديمة في تلك البلاد، ولعل أبرز التأثيرات كان في نشأة فن الموشحات الذي ابتكره شاعر عاش في القرن التاسع الميلادي هو مقدم بن معاقر القبرى الضرير. ومن الموشحات استقى الشعراء الجوالون في أوروبا (التروبادور) والبروفانسيون (جنوب فرنسا) وكذلك ظهر في إسبانيا فن الزجل.

وفي عام 1349 كتب بوكاشيو حكاياته المسماة الصباحات العشرة حذا فيها حذو الليالي العربية المعروفة باسم ألف ليلة وليلة, وضمّنها مائة حكاية وأسندها إلى سبع سيدات وثلاثة رجال اعتزلوا المدينة فراراً من الطاعون وفرضوا على أنفسهم حكاية يقصّها أحدهم على أصحابه كل صباح، من هذه الحكايات اقتبس وليم شكسبير موضوع مسرحيته “العبرة بالخواتيم”, واقتبس منها أيضاً الأديب الألماني لسنغ مسرحيته “ناثان الحكيم”. وأروع ما كتبه بوكاشيو أيضاً  قصص الديكاميرون, وهي ليست من تأليفه, إنها أشبه بألف ليلة وليلة, وقد صاغها بأسلوبه الجميل, ولوّنها برؤاه فجاءت هذه القصص تحفاً فنية رائعة, وهي تُعبّر عن النفس البشرية بأهوائها وطموحاتها.. وفي لحظات السعادة ولحظات التعاسة, ومعظم حكايات الديكاميرون قصيرة, فهي تعد في عرف يومنا هذا من قصار القصص القصيرة, وهو يصور الموقف بقليل من الكلمات ثم يصل إلى نهاية مباغتة، ومن هذه القصص مغامرة الملك في منزل سيدة يحاول إغواءها, فأرسل بزوجها إلى الحروب الصليبية, ودعا نفسه إلى منزلها لتناول العشاء, وكانت السيدة لا تستطيع عصيان الملك وهي مع ذلك لا تريد الاستجابة لرغباته, فتعد مائدة فاخرة تتكون من عدد من أطباق الدجاج وقد اختلف تشكيله وطهيه, فلاحظ الملك إنه لم يُقدّم إليه غير الدجاج, وأصابته الدهشة فقال: سيدتي أليس في البلاد طعام آخر؟ فأجابت: يوجد يا مولاي, ولكن النساء كالدجاج فهن على اختلاف المظهر سواء في كل مكان، فأدرك الملك ما ترمي إليه السيدة وعاد إلى زوجه في هدوء. وفي هذا الطراز من القصص كان بوكاشيو يغيّر في المفاجأة بأن يدفع بها إلى مفاجأة أعظم، فيكون الختام مفاجأتين لا واحدة!

وكان شوسر إمام الشعراء الحداثيين في اللغة الانكليزية أكبر المقتبسين من بوكاشيو فقد التقى به حين زار إيطاليا ونظم قصصه المشهورة باسم قصص كانتربري على محور يشبه القصص التي ألّفها بوكاشيو  “اليكا بيرزن” الصباحات العشرة ومنها قصة “السيد” المستوحاة من قصص ألف ليلة وليلة، وظل الأدباء الغربيون ينسجون على هذا المنوال في نظم القصص إلى عهد لونجيلو صاحب الديوان الذي سمّاه “خان بمنعطف الطريق” وربما كانت صلة دانتي بالثقافة العربية أوضح من صلة بوكاشيو وشوسر، لأنه أقام بصقلية في عهد فريدريك الثاني الذي كان يدمن دراسة الثقافة الإسلامية من مصادرها العربية, ودارت بينه وبين الملك حوارات ومساجلات في مذهب أرسطو كان بعضها مستمدا من الأصل العربي, ولاحظ المستشرقون الشبه بين أوصاف الجنة في كلام محي الدين بن عربي, وبين أوصاف دانتي في الكوميديا الإلهية, وكان دانتي على معرفة واسعة بالسيرة النبوية الشريفة وقصة الإسراء والمعراج, واطلع على رسالة الغفران لأبي العلاء المعري, واقتبس من كل هذا رحلته إلى العالم الآخر في كتابه “الكوميديا الإلهية” كما أن سيرفانتيس عاش في الجزائر بضع سنوات, وخرج بعدها بروايته “دون كيشوت” التي استمدت أمثالها من أصول أندلسية، وكان الكاتب الاسباني الفارو القرطبي قد قال: إن أرباب الفطنة سحرهم رنين الأدب العربي فاحتقروا اللاتينية, وراحوا يكتبون بلغة قاهريهم…”. واعترف لافونتين الفرنسي باقتباسه الأساطير من كتاب “كليلة ودمنه الذي عرفه الأوروبيون عن طريق المسلمين.

كما تأثرت القصة الأوروبية في نشأتها بما كان عند العرب من فنون القصص في القرون الوسطى وخاصة المقامات ومغامرات الفرسان في سبيل المجد، منها رحلات جيلفر سوفت, ورحلة روبنسون كروز، كما أن أوروبا لم تكن تعرف الفروسية وآدابها وحماسها قبل وفود العرب إلى الأندلس. ومن العرب تعلمت أوروبا الغزل العفيف وتقديس المعشوقة على غرار الشعراء العذريين والمتصوفة وكذلك أدب التشبيب. لقد عاشت أوروبا عصورا من الظلام حتى هبت عليها رياح الثقافة العربية.

إبراهيم أحمد