دراساتصحيفة البعث

صفقــة القــرن وصفقــة القــرون

عبد الرحمن غنيم

حين نقف عند التواطؤ الأميركي الإسرائيلي السعودي فيما أسميت بـ”صفقة القرن”, والتي تعني ببساطة متناهية تصفية القضية الفلسطينية, فلا شك أن السؤال الأول الذي يتبادر إلى الذهن: ما الدوافع السعودية بالذات وراء تبنّي هذه الصفقة؟.

إن سبب طرح السؤال على هذا النحو، هو لأننا نعرف بأنه بات من طبيعة الأشياء أن يتماهى الموقف الأميركي مع الموقف الصهيوني تماهياً كاملاً، فالإدارات الأمريكية, ومنذ قرن من الزمن على الأقل, تتبنّى المشروع الصهيوني في كل مراحله وفي كل تطلعاته, وتعمل على تمكين الصهاينة من تحقيق أهدافهم على حساب العرب، وأما المملكة السعودية, فيفترض – لو مجرد افتراض– أنها دولة عربية إسلامية، وأنها تقف مع عرب فلسطين وحقوقهم, وقد تقاتل إلى جانبهم من أجل هذه الحقوق, لا أن تقف ضدّهم وضدّ هذه الحقوق. كما يفترض فيها على الأقل أن تتبنّى مطالب عرب فلسطين وليس نقيض هذه المطالب, وحتى إذا قصّرت بأداء واجبها تجاههم, فإن موقفها لا يجوز أن يتمثل في فرض إرادتها وإرادة شركائها أمريكيين وصهاينة عليهم، فما الذي جمعها إذن مع الأمريكي والإسرائيلي لتتبنى الأهداف الصهيونية بدلاً من مناصرة فلسطين وقضيتها العادلة؟.

وقد يسارع البعض هنا إلى القول بأن طموحات محمد بن سلمان السلطوية بأن تساند الإدارة الأمريكية مسعاه لوضع اليد على مملكة آل سعود هي التي دفعته إلى تبنّي “صفقة القرن” كجزءٍ من صفقة عقدها مع ترامب ودفع ثمنها عدّاً ونقداً غالياً جداً كما هو معلوم، لكن دعونا نسلم بأن هذا التحليل فيه تبسيط كبير للأمور.

فالأمير السعودي الطامح والجامح كان يمكن أن ينال الدعم الأميركي لطموحه في صفقة دفع ثمن الحماية دون أن يضطرّ إلى أن يزيد على ذلك بقبول “صفقة القرن” التي تهدف إلى تصفية قضية فلسطين, خاصة وأن صفقة القرن هذه, إذا أخذت طريقها إلى التنفيذ كما يأمل أصحابها, ستكون لها بالتأكيد انعكاسات سلبية على النظام السعودي الذي بات سلمان يمسك بزمامه، وبتعبير آخر, لقد اشترى ابن سلمان السلطة في صفقة ودفع ثمنها عدّاً ونقداً بمئات مليارات الدولارات, فما حاجته لأن يشتري الهمّ والغمّ والنكد والتثريب في صفقة أخرى هي ما أسميت بـ”صفقة القرن”؟.

في الواقع ثمة بُعدٌ آخر للمشكلة التي تثيرها هذه الصفقة, وهو البعد المتعلق بما عرفت بـ”المبادرة العربية”, التي هي أصلاً مبادرة سعودية طرحها الملك عبد الله, وتعكس رغبة سعودية واضحة في تصفية القضية الفلسطينية بأي ثمن وضمان التطبيع العربي الكامل مع الكيان الصهيوني.

ومعروف أن هذه المبادرة طرحت في إطار الادّعاءات التي سوقتها السلطات الحاكمة في السعودية حول “الاعتدال” و”دول الاعتدال العربي”, وكانت تسهم بذلك في شق الصف العربي أولاً, وتبرير الاعتداءات الصهيونية ثانياً, والتمهيد لتنفيذ خطة “الشرق الأوسط الجديد” أو “الفوضى الخلاقة” ثالثاً.

إن كل ما سبق حدث قبل أن يصعد ابن سلمان ليصير وليّاً لوليّ العهد ثم وليّاً للعهد, وقبل أن يبايع سلمان ملكاً، فالمسألة إذن ليست طارئة بل لها جذورها الأعمق في السياسة السعودية، وإن تبدّل صيغتها من مرحلة إلى أخرى يعكس تطوّر التغوّل الصهيوني في الاستيطان والتهويد من مرحلة إلى أخرى, بحيث تأتي الحلول المطروحة لتنسجم مع حجم هذا التغوّل.

إن هذه المعطيات تجعلنا نميل إلى الاستنتاج بأن هناك دوافع خفية تكمن وراء سلوك النظام السعودي تجاه قضية فلسطين، وهي أعمق بكثير مما تشي به ظواهر الأمور، فماذا يمكن أن تكون هذه الدوافع؟.

لا يمكننا الإجابة على هذا السؤال إجابة منطقية ومفهومة دون أن نعود قروناً إلى الوراء لرصد الظواهر التالية: وهي، الظاهرة الأولى: نشوء الحكم السعودي في جزيرة العرب وجذور الأسرة السعودية، والثانية: اختفاء يهود الجزيرة العربية الكثيرين في وقت متزامن مع نشوء الحركة الوهابية وإمارة آل سعود الأولى، والثالثة: التحكم البريطاني ومن ثم البريطاني الأميركي بالنظام السعودي في مراحله المختلفة، والرابعة: استثمار الحركة الوهابية تاريخياً وما آل إليه استثمار هذه الحركة الآن.

دعونا نقول بأن سلوك الأسرة السعودية الحاكمة طوال الوقت, وعدم اشتباكها مع المشروع الصهيوني في أيّ وقت, والتطبيع الواقعي القائم بينها وبين الكيان الصهيوني, ووصول هذا التطبيع إلى حدّ التحالف الواقعي المعلن بعد التحالف الواقعي الخفي, والخدمات العملية التي قدّمت لهذا الكيان من خلال المبادرة السعودية التي صارت تسمى زوراً بالمبادرة العربية, ثم التواطؤ السعودي مع أميركا وإسرائيل في “صفقة القرن” ومحاولة فرض هذه الصفقة على الفلسطينيين من خلال الابتزاز, عدا عن التحالف بين النظام السعودي والصهاينة تحت عنوان “محاربة إيران” في تغيير دراماتيكي لمسار الصراع في المنطقة وأطرافه, كل ذلك جاء ليؤكد المعطيات القائلة بأن آل سعود هم حقاً سليلو تاجر الحبوب اليهودي البصري مردخاي بن أبراهام بن موشيه الذي زعم الانتساب إلى عنيزة, وانتقل إلى نجد, ليؤسس أسرة آل سعود بعد أن انتحل اسم ميرخان، ولننتبه هنا إلى أن ادّعاء آل سعود تحدرهم من عنيزة لا يغيّر في المشهد, فيهود خيبر كانوا من عرب عنيزة الذين تهوّدوا، وإن الانتماء إلى عنيزة أو غيرها من القبائل في جزيرة العرب أو الانتماء إلى بني إسرائيل القدماء لا يغيّر شيئاً فيما يتصل بالتهوّد, حيث أن التهوّد لم يقتصر على بني إسرائيل ولم يشمل كل بني إسرائيل.

وإذا كان جدُّ آل سعود وأبناؤه وأحفاده قد طمحوا من خلال التظاهر باعتناق الإسلام أو حتى باعتناقه في إقامة سلطة لهم وسلطان على مجتمع غالبيته عربية إسلامية, فإن هذا السلوك لا يخضع تقييمه لاحتمال واحد وإنما لأكثر من احتمال, فإما أن يكونوا صادقين في إسلامهم وإما أن يكونوا كاذبين، ولعل أحد مقاييس الصدق أو الكذب في هذه الحالة يتمثل في رصد الغاية ومن ثم السلوك الذي واكب أو أعقب تحقيق هذه الغاية، ومن جعل غايته أن يكون له ملك وسلطان في مجتمع غالبيته من المسلمين, من الوارد أن يتظاهر باعتناق الإسلام, وألا يجاهر بخلفيته اليهودية, وإلا لما تسنّى له أن يحقق ما حققه من إقامة إمارة فمملكة.

على كل حال, إن جوهر المسألة لا يكمن هنا, وإنما يكمن تحديداً في تلك اللحظة التي اختفى فيها يهود الجزيرة العربية بشكل فجائي. وهي لحظة واكبت ظهور الحركة الوهابية في النصف الأول من القرن الثامن عشر, بالتزامن مع شروع آل سعود بالاعتماد على هذه الحركة في مدّ سلطانهم وسلطتهم على أجزاء من جزيرة العرب، فتحوّل اليهود الجماعي والسرّي إلى مسلمين, بل والى وهابيين أو مناصرين للوهابيين, مدّعين أنهم إصلاحيون, ليس بالتطور الطبيعي الذي يمكن أن يتحقق بشكل جماعي ومفاجئ على هذا النحو, خاصة وأن يهود الجزيرة العربية كانوا قد تمسّكوا بيهوديتهم منذ زمن البعثة المحمدية وحافظوا عليها لقرون طويلة, فما الذي جدّ مع الحركة الوهابية ليدفعهم إلى تغيير المسار؟. إذ لا بدّ من وجود دوافع عميقة وراء هذا التطوّر.

مما يلفت الانتباه نصٌ ورد على لسان غولدا مائير تقول فيه إنه سيأتي يوم يؤول فيه الحكم في البلدان العربية إلى “أبناء إسرائيل”، وهنا لا بدّ من تصحيح الترجمة لوضع عبارة “بني إسرائيل” محل “أبناء إسرائيل”, لأن “أبناء إسرائيل” قد يفهم منها أولئك الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية, أما عبارة “بني إسرائيل” فتنصبّ على أولئك الذين يدركون أو يعتقدون بأنهم يتحدّرون من بني إسرائيل القدماء, أو من اليهود المتأسلمين أو المتنصرين ممّن يتمسكون سراً بيهوديتهم, ويصرّون على اعتبار أنفسهم من “الشعب المختار”، ونحن بطبيعة الحال لا نملك معطيات دقيقة تمكننا من معرفة هؤلاء, كما أنه لا يجوز في تعاملنا مع الآخرين أن نغلب الظن على اليقين. فما أدرانا أن يكون الكثيرون من هؤلاء قد أسلموا وحسن إسلامهم أو تنصروا والتزموا بالديانة المسيحية، كما علينا بالنسبة لليهود أن نسلم بحكم القرآن الكريم القائل [ليسوا سواء]، وتقاليدنا العربية الإسلامية في هذا المجال قائمة على التسامح أولاً, وحسن الظن ثانياً, وعدم التسرع بإصدار الأحكام ثالثاً.

رغم هذا التحفظ, فإن ما حدث في جزيرة العرب في القرن الثامن عشر يشير إلى صفقة نجح الانجليز بإبرامها مع اليهود، وهذه الصفقة تضمنت عقد تحالف بين آل سعود وآل الشيخ, وكلاهما كما يقال من أصل يهودي, وتعبئة يهود الجزيرة العربية أو الجزء الأكبر منهم وراء هذا التحالف من خلال تظاهرهم باعتناق الإسلام والمساهمة في الحركة الوهابية، وهكذا أوجدت لتحالف آل سعود وآل الشيخ قاعدته التي يرتكز عليها، إلى جانب التأثير الذي مورس على القبائل العربية.

وهذا هو التفسير الوحيد لاختفاء اليهود الجماعي في جزيرة العرب رغم أن الإحصاءات اليهودية تؤكد وجود أعداد كبيرة منهم في القرن الثاني عشر الميلادي, أي في زمن الحروب الصليبية, ثم إن الأنباء المتواترة بعد ذلك تؤكد هذا الوجود الكبير والقوي لتصمت فجأة عنه مع ظهور الحركة الوهابية، وإن العنصر الأهم في هذا السياق ما تكشف عن سفارة اليهودي دافيد رؤوبيني في القرن السادس عشر إلى أوروبا طالباً مساعدة يهود الجزيرة العربية على احتلال فلسطين وإقامة دولة يهودية فيها، وهذا يعني أن الصهيونية السياسية نشأت في جزيرة العرب قبل أن يعاد إنشاؤها في أوروبا بزمن طويل.

إزاء هذه المعطيات، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو التالي: هل اقتصرت الصفقة التي عقدها جواسيس وزارة المستعمرات البريطانية, مع يهود الجزيرة العربية على تأييد تحالف آل سعود وآل الشيخ, أي أحفاد مردخاي والقرقوزي, باعتبار ذلك تجسيداً لطموح يهودي في استلام السلطة, أم أن هناك وعوداً أخرى قدّمها الانجليز لليهود وتفسّر تحوّلهم الجماعي إلى وهابيين، طالما أننا لا نملك دليلاً آخر على سر اختفائهم غير هذا الدليل؟!. وهل كان الوعد بتمكين اليهود من فلسطين جزءاً من هذه الصفقة؟. وبافتراض أن هذا الوعد كان جزءاً من الصفقة فهل اقتنع يهود الجزيرة العربية بارتهانهم لهذين الأمرين: أي إمساك السلطة في جزيرة العرب ولو تحت ستار, وإقامة دولة لليهود في فلسطين ولكن بعد انتظار, وصار عليهم أن يتعايشوا مع متطلبات هذا الترتيب؟.

دعونا نسلم بأن إنجاز الوعدين قد تعثر خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر, ولكنه أخذ طريقه إلى التنفيذ بالتزامن في القرن العشرين, وفي أعقاب الحرب العالمية الأولى, بتمكين عبد العزيز آل سعود من إقامة مملكته, وتمكين صهاينة اليهود من اغتصاب فلسطين تحت رعاية الاحتلال البريطاني لفلسطين. وهنا بدت الأمور ظاهرياً على الأقل وكأن تمكين آل سعود من جزيرة العرب منفصل عن تمكين اليهود الصهاينة من اغتصاب فلسطين. وعلى الأقل فإنه باستثناء هجرة يهود اليمن إلى فلسطين في وقت مبكر, فإن جزيرة العرب لم تسجّل بشكل معلن على الأقل هجرة يهود إلى فلسطين، وإن كان من المحتمل أن المناطق التي ألحقت بمملكة آل سعود في عسير وجيزان ونجران قد شهدت هجرة يهودية من خلال هجرة يهود اليمن، لكن الجانب الأهم الذي يعنينا هنا أنه لم يجر رصد حالات تراجع فيها يهود تأسلموا عن الإسلام ليلتحقوا بالكيان الصهيوني.

قد تبدو هذه الظاهرة تأكيداً لقول من قال في تفسير اختفاء يهود الجزيرة العربية أنهم ربما أسلموا في البداية لسبب أو آخر, لكن أبناءهم وأحفادهم اعتادوا بعد ذلك على أداء العبادات الإسلامية, وحسن إسلامهم وانتهى الأمر، لكن هذا التفسير أو التبرير قد لا يكون أكيداً، والسؤال يبقى قائماً: ماذا إذا كان هؤلاء وبعض من في حكمهم من اليهود, ليس فقط في جزيرة العرب, بل وفي أقطار عربية أخرى وفي تركيا كما في حالة يهود الدونمة, كانوا معنيين بتثبيت سلطتهم وسلطانهم حيث هم تحت غطاء اعتناق الإسلام؟!. لقد رأينا بعض ما فعله هؤلاء في مركز السلطنة العثمانية في تركيا، أفلا يثير ذلك التساؤل عن وجود امتداد لهم في أجزاء تلك السلطنة وليس فقط في المركز؟.

إن الجواب على مثل هذه الأسئلة قد يسهم في بيان الخلفية الحقيقية لما قالته غولدا مائير عن تمكين “بني إسرائيل” من حكم المنطقة، ومن المؤكد أنهم إذا نجحوا في فعل ذلك لن يتم بهوية يهودية صريحة بل تحت غطاء اعتناق الإسلام.

إن النموذج السعودي في الواقع هو المثال الأبرز في هذا الاتجاه، ولعل ما يدلل على صحة هذا الاستنتاج أن تجربة الصراع العربي الصهيوني على امتدادها لم تشهد اشتباكاً سعودياً صهيونياً يهودياً واحداً حتى الآن!. وهي ظاهرة يتغنى بها الصهاينة وهم يعلنون عن التحالف العملي القائم بينهم وبين النظام السعودي والمعلن عنه في هذه الأيام، لكن الوضع على هذا النحو لن يكون كافياً بالنسبة للمطامح اليهودية, سواء نظر إليها من زاوية اليهود الصهاينة في فلسطين أو من زاوية اليهود المتأسلمين في جزيرة العرب, إذ لا بد من أمرين للربط بين الطرفين:

الأمر الأول: يتمثل بالربط الاقتصادي وكل ما يتصل به من انفتاح وتواصل وتعاون. وهو ما يعبّر عنه في لغة السياسة الآن بالتطبيع الاقتصادي, وإن كانت المسألة أعمق من أن تكون مجرد تطبيع، فالتطبيع فيها ستار لإخفاء الحقيقة.

والثاني: يتمثل بما تسمّى بالسياحة الدينية حتى ولو تحت ستار السياحة العادية، بل إن السياحة الدينية قد تكون جزءاً من الصفقة، فالمسلم العادي معنيٌّ بالوصول إلى المسجد الأقصى في القدس, وبالمقابل فإن اليهودي المتأسلم يعنيه زيارة الموقع ذاته ولكن تحت عنوان معتقده بأن هذا هو مكان الهيكل، وبالتالي, فإننا لا نستبعد ضمن صفقة القرن أن تتضمن ما يؤمن هذين المطلبين.

حين ننظر إلى المسألة من زاوية هذين الأمرين نكتشف أن كلاً من “المبادرة العربية” ذات المنشأ السعودي و”صفقة القرن” الراهنة ذات المنشأ الأميركي السعودي اليهودي، من شأنهما تأمين هذين المطلبين، فالربط الاقتصادي, وهو الأهم عند اليهودي, سيتم تحقيقه تحت عنوان التطبيع, والربط الديني سيتم تحقيقه أيضاً تحت عنوان التطبيع والحج أو السياحة الدينية إلى بيت المقدس.

هكذا سنكتشف بقليل من التمعن أن “صفقة القرن الـ 21” هي تجسيد لأهداف “صفقة القرن الـ18” التي رتبها البريطانيون، وإذا ما تمت هذه الصفقة، فبوسعنا أن نتصوّر النتائج التي يمكن أن تترتب عليها عملياً فيما يتصل بالربط بين شريحة من اليهود المتظاهرين باعتناق الإسلام وبين الكيان الصهيوني.

هنا وأمام هذا المشهد المتوقع في عمقه التاريخي لا نستطيع أن ننظر إلى الحركات الإرهابية الوهابية التكفيرية التي تمارس الإرهاب في هذه الأيام باسم الإسلام إلا على أنها استمرار للمخطط الذي شرعوا بتنفيذه منذ القرن الثامن عشر، وأن كل ما في الأمر أن دائرة الاستهداف اتسعت لأن وسائل المواصلات والاتصال قد تطورت, ولأن الأسلحة المستخدمة في القتال قد تغيّرت.

لكن هذا الاستنتاج وحده قد لا يكون كافياً لفهم ما يحدث, إلا إذا افترضنا بأن هذه العصابات الإرهابية التكفيرية هي المكلفة بإنجاز الهدف الصهيوني كما عبّرت عنه غولدا مائير في تمكين “بني إسرائيل” من أن يحكموا العرب ومسلمين آخرين في المنطقة وأن يتحكموا بهم، ففي زاوية ما, أو في مكان ما, من الحرب التي أثارتها القوى المعادية في سياق ما أسموه بـ”الربيع العربي” لا بدّ من البحث عن “بني إسرائيل” الموعودين هؤلاء, ولكن ليس فقط بين قادة قطاعي الرؤوس من الجماعات الإرهابية التكفيرية وهابية وغير وهابية, ولكن أيضاً وسط تلك العناصر التي يراد تصعيدها لتمسك بالسلطة, بما في ذلك تلك التي تتظاهر بأنها معتدلة.

إن حماس بعض هؤلاء للعلاقة مع إسرائيل, وطلبهم المساعدة منها, قد يكون مؤشراً نحو التعرف عليهم, وإن كان هذا المؤشر لا يكفي. ونقول لا يكفي لأننا نعرف بأن من رسم له دور مستقبلي سلطوي من هذا النوع لن يكون بحاجة إلى مثل هذا التهافت الذي يعرّضه للإحراق، فالذين يحرقون ورقتهم مبكراً في هذه القصة أو ينتحرون بتفجير أنفسهم في المفخخات هم حتماً أشخاص على هامش القصة, وليسوا محوراً لها. أشخاص مخدوعون مضللون وليسوا أشخاصاً مدركين للدور الذي ينفذون.

خلاصة القول إن الحرب الإرهابية التي تديرها السعودية وشركاؤها كانت جزءاً من “صفقة القرون” وليس جزءاً من “صفقة القرن” وإذا كانت الغاية من “صفقة القرن” تصفية قضية فلسطين لصالح اليهود الصهاينة, فإن الغاية من “صفقة القرون” هي تمكين اليهود المتأسلمين من الإمساك بالسلطة حيثما أمكن لهم ذلك في العالم العربي والإسلامي, أي تحقيق ما أوردته غولدا مائير كنبوءة صهيونية.

ومن الملائم هنا أن نلاحظ بأن إجراءً سعودياً غرائبياً مثل الإلحاح والتصميم على ضمّ جزيرتي تيران وصنافير الواقعتين عند مدخل خليج العقبة إلى السعودية, ومشروع طريق سيناء – تبوك المرتبط بهذه الخطوة, وما قيل عن اتفاق سعودي – إسرائيلي على إقامة مركز قيادة مشترك بين الطرفين في تيران إنما ينتسب إلى “صفقة القرون” وليس إلى “صفقة القرن” التي جاءت بعد فوز ترامب في الانتخابات الأمريكية وبعد زيارته للمملكة وما كان فيها.

كما أن ما قيل حول “الدور السعودي” في تبرير ممارسات مملكة آل سعود الرامية إلى التآمر على الأنظمة الأخرى وإسقاطها وتصعيد أنظمة أخرى فيها تكون موالية للأمريكي والسعودي, وكل ما يرتبط بهذا الدور من تصرفات عدوانية ومنها الإرهاب التكفيري إنما تندرج في سياق “صفقة القرون” قبل أن تظهر “صفقة القرن” وينطبق الأمر نفسه على الحرب التي شنها النظام السعودي وتحالفه على اليمن والتي لا زال يشنها, وما قيل عن غايتها في ضمان السيطرة الإسرائيلية على باب المندب, فهي جزء من “صفقة القرون” بدأ تنفيذه قبل ظهور “صفقة القرن” وبوسعنا أن نفترض بأن سلوكيات النظام السعودي في القارة الإفريقية بشكل خاص, ودون حاجة إلى تعداد مظاهرها, إنما تخدم اليهود الصهاينة وتندرج في إطار “صفقة القرون” وقد ذكرنا القارة الإفريقية هنا نظراً لكثافة الاهتمام السعودي والصهيوني بالسيطرة عليها, لكن هذا لا يعني استبعاد النشاط السعودي الوهابي في آسيا وأوروبا الغربية أيضاً وصلة هذا النشاط الواضحة بصفقة القرون.

أخيراً نقول: إن “صفقة القرن” في ضوء المعطيات السابقة يمكن أن تعد جزءاً من “صفقة القرون”, وهنا نستطيع أن نستنتج ببساطة متناهية أنها لم تكن ابنة أفكار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بل طرحت عليه إما في الرياض وإما القدس المحتلة، إما من قبل محمد بن سلمان وإما بنيامين نتنياهو.

كاتب وباحث فلسطيني