دراساتصحيفة البعث

التطورات الاقتصادية العالمية وإعادة إعمار سورية

 

د. أحمد السيد النجار
تتجه سورية لإحراز نصر نهائي وحاسم على كافة التنظيمات الإرهابية التي تم الزج بها من أربعة أركان الأرض في محاولة لتدمير الدولة ووحدة ترابها الوطني وإعادتها للخلف فكرياً وثقافياً لقرون إلى الوراء من خلال مجموعات تكفيرية متطرفة ومتخلفة.
وسوف تحدد عملية إعادة إعمار سورية مستقبل التنمية والعدالة والاستقرار المبني على التراضي وليس السيطرة في هذا البلد العربي الكبير، وهناك تجارب تاريخية غنية بشأن السياسات الاقتصادية التي يمكن أن يتم من خلالها إعادة الإعمار وبناء الاقتصاد، وربما تشكل التجارب الأوروبية الغربية والشرقية بعد الحرب العالمية الثانية، والتجارب الصينية والفيتنامية والكورية لإعادة بناء الاقتصاد الذي خربته الحروب خبرات بالغة الأهمية في هذا المجال دون إهمال أي عناصر تتعلق بخصوصية الوضع في سورية أو مستجدات البيئة الاقتصادية العالمية.
ولدى التفكير في إعادة إعمار أي اقتصاد فإن طبيعة النظام الاقتصادي تأتي في صدارة الاختيارات الأساسية لهذه العملية، وتعد طبيعة النظام الاقتصادي الذي يتبعه أي بلد في العالم، محدداً للسياسات الاقتصادية الكلية والمالية والنقدية في هذا البلد، وعاملاً حاسماً في تسيير وتوجيه الاقتصاد، ونجاحه أو فشله في مواجهة الظروف والقضايا والمعضلات التي يواجهها هذا الاقتصاد، ولكن قبل تناول طبيعة النظام، لابد من الإشارة إلى تأثير طبيعة النظام الاقتصادي الدولي على فرص التعاون العالمي مع سورية في إعادة الإعمار.
أولاً: المؤسسات الدولية والاعتماد على الذات:
يجب التأكيد بداية أن المؤسسات الدولية لن تساند سورية، وأن البديل هنا هو الاعتماد على الذات والتعاون مع الأصدقاء، خاصة وأن الولايات المتحدة وحلفائها تهيمن على صناعة القرار في المؤسسات الدولية، وبخاصة في صندوق النقد والبنك الدوليين، ويبين ذلك نموذج الأزمة المكسيكية التي كسرت واشنطون من خلالها كل قواعد الإقراض التي يعمل الصندوق على أساسها لمجرد أن مصالحها اقتضت ذلك.
وفي ظل مثل هذا النظام الدولي ومؤسساته التابعة للولايات المتحدة وحلفائها، فإنه على سورية ألا تتوقع أي تعاون فعال مع المؤسسات الدولية في إعادة الإعمار، وسيكون عليها أن تستنهض المدخرات الموجودة لدى السوريين في الداخل والخارج للمشاركة في تمويل عمليات إعادة الإعمار بمختلف وسائل المشاركة التي ينبغي تنويعها بشكل مرن ومبدع وقادر على جذب أموال السوريين كاستثمارات مباشرة وغير مباشرة أو كمدخرات في وسائل ادخارية متنوعة وجذابة لاستخدامها أيضا في تمويل الاستثمارات.
كما يمكنها أن تتعاون مع الدول الصديقة في عملية إعادة الإعمار، إذ ينبغي أن يتم إعطاء أولوية مطلقة للتعاون الاقتصادي واتفاقيات المشاركة والتعاملات التفضيلية في التجارة والاستثمارات وحتى السياحة مع البلدان التي ساندت سورية في حربها ضد الإرهاب، فليس من دعم وساند أو حتى كان محايداً كمن غدر واعتدى مباشرة أو عبر وكلائه.
لكن ذلك ينبغي أن يتم أيضا على أسس اقتصادية وبصورة تحقق المصالح السورية باعتبارها البوصلة التي ينبغي اتباعها في كل ما يتعلق بالعلاقات الاقتصادية الدولية، ولحسن الحظ فإن الدول الصديقة لسورية تتضمن دولاً رئيسية مصدرة للاستثمارات مثل روسيا والصين وإيران.
وهنا، فقد ضخت الصين استثمارات مباشرة قيمتها 183,1 مليار دولار في دول العالم عام 2016 وحده، وبلغ رصيد استثماراتها المباشرة المتراكمة حتى عام 2016 في مختلف بلدان العالم نحو 1281 مليار دولار، كما ضخت روسيا استثمارات قيمتها 266,3 مليار دولار في مختلف بلدان العالم خلال الفترة من عام 2011 حتى عام 2016 .
وكي نستطيع جذب استثمارات من تلك البلدان، فلابد من تهيئة الاقتصاد السوري لذلك سواء بصورة قانونية تيسر إجراءات تأسيس الأعمال والتخارج منها، أو بصورة عملية لضمان سهولة تنفيذ الإجراءات بدون تعطيل من الجهاز الوظيفي أو نزوع بعض العاملين فيه للحصول على إتاوات لتمرير الإجراءات واستخراج التصاريح، ومن المفيد أن يتم إنجاز الكثير من الإجراءات إلكترونياً لتفادي التعامل المباشر بين المستثمرين والموظفين حيث أن ذلك التعامل المباشر يفتح باب الرشى والفساد، ولابد من تشديد إجراءات الرقابة لمنع ومكافحة الفساد من خلال جهاز أو أجهزة مستقلة عن السلطة التنفيذية ولديها سلطة تحويل ما تكتشفه من قضايا فساد إلى القضاء مباشرة.
ثانياً: النظام الاقتصادي وإعادة الإعمار:
بالنظر إلى التجارب التاريخية لإعادة إعمار ما خربته الحروب، سنجد بعض العناصر المشتركة أيا كان مسمى النظام الذي يقوم بعملية إعادة البناء، ففي كل تلك التجارب بما فيها أوروبا الغربية كان دور الدولة حاضراً ورئيسياً في إعادة بناء الاقتصاد بداية بالبنية الأساسية ووصولاً إلى المشروعات الصناعية والخدمية وحتى الزراعية في بعض الحالات.
وهذه الطبيعة للنظام الاقتصادي الذي تحتاج سورية لأن تتبناه لا تتعلق بالإيمان الأيديولوجي بطبيعة النظام الاقتصادي الاجتماعي الأفضل، بل بالنظام الأكفأ والأقدر على تبني سياسات عملية يمكنها في ظل الظروف الراهنة أن تضمن تحقيق النمو الاقتصادي الدائم ورفع مستوى تشغيل قوة العمل ورأس المال والتحديث والتطور على قواعد العلم والعمل من خلال الاستثمارات الخاصة والعامة والتعاونية في كل القطاعات، والأقدر على وضع قواعد واضحة لتحقيق العدالة الاجتماعية من خلال نظم التشغيل والأجور والضرائب والدعم والتحويلات، والأقدر على وضع نظم صارمة لمنع ومكافحة الفساد من خلال مؤسسات تتمتع باستقلالية كاملة عن السلطة التنفيذية.
ويمكن القول أن سورية لابد أن تعتمد في الوقت الراهن على اقتصاد منفتح على العالم بصورة عادلة ومتكافئة، ويتسم بأنه اقتصاد مختلط ينهض على أربعة روافع هي القطاع الخاص بكل مستوياته الذي يعمل في إطار نظام اقتصادي يتيح له كامل الحرية في العمل في كافة المجالات، والقطاع العام الذي تنشئه وتديره الدولة، وقطاع الملكية المجتمعية الذي تقود الدولة عملية إنشائه من خلال اكتتابات عامة مضمونة من الدولة، لإنشاء مشروعات جديدة مملوكة لحملة الأسهم وتخضع لرقابة الدولة لحماية حقوق هؤلاء الملاك من أي تجاوز من المديرين التنفيذيين، والقطاع التعاوني.
وهذا النظام الاقتصادي لابد أن يتضمن إطاراً قانونياً صارماً ومؤسسياً لمنع ومكافحة الفساد وضمان تحقيق النزاهة الشفافية الكاملة، ويتطلب هذا النظام بناء السياسات الاقتصادية على أساس تفعيل هذه الروافع التي يمكنها معا تحقيق التنمية الاقتصادية والتشغيل وإعادة الإعمار ورفع مستويات المعيشة بصورة ملهمة تحول سورية إلى دولة ناهضة ونموذجا تنموياً يحتذى في المنطقة وخارجها.
وينبغي أن ينعكس هذا الاختيار لنموذج الاقتصاد المختلط، الأقرب للنموذج الكينزي في إستراتيجية تنموية مبنية على أساس هذه الطبيعة للنظام الاقتصادي التي تضمن الحرية الاقتصادية الكاملة، وتضمن دوراً فاعلاً للدولة في الوقت نفسه، والتي تعد الأكثر ملائمة لقيادة الاقتصاد لتحقيق نهوض سريع في حالة اقتصاد نامي يستهدف إعادة البناء والهيكلة وتطوير الخدمات الصحية والتعليمية مثل سورية.
ويعتمد هذا النموذج على الأفكار الكينزية نسبة إلى صاحبها المفكر البريطاني جون مينارد كينز، الذي اعتمد بدوره على استعارة إجراءات اشتراكية لتحقيق التحديث والتطوير والتوازن للنظام الرأسمالي نفسه وفقا لما ذكره هو نفسه.
وكان كينز يرى أن توسيع وظائف الدولة هو أمر لازم لمطابقة الميل للاستهلاك مع الحافز للتوظيف، وشرطاً للقيام بالمبادرة الفردية بنجاح، وأشار إلى أن نوعاً من الاشتراكية الواعية في مجال التشغيل هي الوسيلة الوحيدة لتأمين التشغيل الكامل بصورة تقريبية.
وانطلاقاً من هذه النظرية الكينزية توسع دور الدولة وشاركت بفعالية في النشاط الاقتصادي كصانع وتاجر ومنتج للخدمات وكقوة قادرة على تحقيق التوازن الاقتصادي الكلي ورفع مستوى تشغيل العمل ورأس المال.
إن نموذج الاقتصاد المختلط الذي يمكن التوافق عليه بين القوى المتباينة أيديولوجيا والذي يضمن الحرية الكاملة للقطاع الخاص وكأنه نظام اقتصادي حر، ويرسخ دور الدولة في الاقتصاد كآلية لتحقيق التوازن ورفع مستوى تشغيل قوة العمل ورأس المال، وقد قاد هذا النظام الدول الرأسمالية لتخطي أزمة الكساد العظيم الأول في ثلاثينيات القرن العشرين، ولمواجهة فترة الحرب العالمية الثانية، وفترة إعادة بناء ما خربته الحرب، محققة قفزات اقتصادية كبرى عبر خمسة عقود من اتباع هذا النموذج.
وللعلم فإن كل ما روجه صندوق النقد والبنك الدوليين ومن ورائهما الدول الدائنة حول انسحاب الدولة من الاقتصاد، هو لغو فارغ لا يطبقونه هم أنفسهم، لأن الإنفاق الحكومي في كل من فرنسا وبريطانيا وإيطاليا وهولندا وبلجيكا على التوالي بلغ نحو 48,1 ،% 46.4 ،% 43,8 ،% 45,5 ،% 44,1% في عام 2010 ويدور حول تلك المستويات منذ سنوات طويلة.
وحتى في البلدان التي يوجد فيها ازدواج في الإنفاق العام للدولة نتيجة وجود إنفاق عام للحكومة المركزية، وإنفاق عام في الولايات، فإن الإنفاق المركزي بلغ 32% من الناتج المحلي الإجمالي في ألمانيا، وبلغ 26,8% في الولايات المتحدة في العام المذكور، ولو أضيف إليه الإنفاق العام في كل ولاية فإن النسبة سترتفع إلى نفس المستويات الموجودة في الدول الأوروبية المذكورة آنفاً.
وليس معنى أننا نرصد هذه المستويات من تحكم الدولة في إنفاق قسم ضخم من الناتج المحلي الإجمالي، أنه ينبغي إعادة إنتاج نفس النموذج في سورية، بل إنها ينبغي أن تتعامل في هذا الصدد بناء على ظروفها، لكن بدون الخضوع لأي ابتزاز أيديولوجي من صندوق النقد والبنك الدوليين والدول الرأسمالية الكبرى فيما يتعلق بدور الدولة في الاقتصاد، لأن تلك الدول الرأسمالية هي الأعلى في إنفاقها العام كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي حتى وإن كانت تنسحب من النشاط الاقتصادي المباشر الذي ظلت تشارك فيه بقوة من ثلاثينيات القرن العشرين وحتى نهاية سبعينياته.
وليس المطلوب بالضرورة أن تبني الدولة وتمتلك عددا كبيرا من المشروعات، لكنها بالتأكيد يجب أن تقوم بتطوير وتحديث قطاعها العام القائم فعليا، وأن تقود المجتمع لبناء مثل تلك المشروعات من خلال قيادتها لعمليات اكتتاب عامة واسعة النطاق لبناء مشروعات كبرى جديدة تقوم على مساهمات السوريين في الداخل والخارج، مع ضمان الدولة لتلك المشروعات، ولحد أدنى من العائد منها، مع تأسيس لصندوق صانع للسوق لأسهم الشركات التي سيتم الاكتتاب لتأسيسها، لطمأنة صغار المستثمرين، مع إخضاع تلك الشركات للأجهزة الرقابية لمنع فساد المديرين التنفيذيين فيها.
ومن المؤكد أن وجود نظام ديمقراطي يتضمن الفصل بين السلطات والتوازن بينها، ووجود تشكيلات نقابية حرة ووجود أجهزة رقابية مستقلة تقدم قضايا الفساد التي تكتشفها للرأي العام والقضاء المستقل مباشرة، ووجود رقابة تشريعية وعمالية وشعبية على الأداء المالي لمؤسسات القطاع العام، سوف تضمن منع ومكافحة أي فساد فيها.
أما أهم السياسات المنظمة للتوجه القطاعي للاستثمارات الجديدة فينبغي أن تكون سياسة الإحلال محل الواردات ولكن بصيغة مختلفة عن تلك القاصرة التي تم اعتمادها في العديد من بلدان العالم في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، إذ ينبغي أن تكون سلسلة متكاملة من الإحلال محل الواردات من السلع الاستهلاكية للآلات والمعدات والسلع الوسيطة، خلافاً لما تم سابقا في غالبية الدول النامية ومنها مصر من ثلاثينيات إلى ستينيات القرن الماضي، حيث تم الإحلال محل الواردات في مجال السلع الاستهلاكية مع الاستمرار في الاعتماد على استيراد الآلات والمعدات والتقنيات الأجنبية مما أفضى في النهاية إلى مشكلات اقتصادية جديدة.
ويشير المفكر بي.س.سميث بحق إلى أنه بحلول نهاية ستينيات القرن العشرين زاد إحلال الواردات من التبعية، ولكن عندئذ فيما يتعلق بالسلع الرأسمالية الآلات والمعدات، والمصنع، والتكنولوجيا، وصار توزيع الدخل أكثر لا مساواة، وطورت اللامساواة بعدا جديدا، هو البعد بين المناطق الريفية والحضرية، ولم يتم استيعاب الأشخاص المُزاحين من الأرض في أنشطة صناعية جديدة تدمجهم في هيكل اجتماعي جديد، لأن الصناعات الجديدة كانت كثيفة رأس المال وليست كثيفة العمل، ونشأت أشكال جديدة من التهميش لدى سكان أحياء الفقراء المتجمعين على حواف المدن الرئيسية والمراكز الصناعية.
أما سياسة الإحلال محل الواردات عبر سلسلة متكاملة من الصناعات فإنها تساعد على بناء قاعدة صلبة للاستقلال الاقتصادي حتى مع الانفتاح على الاقتصاد العالمي بشكل واسع النطاق، وتعتبر الصين حالة نموذجية لهذه السياسة المتكاملة، وحتى بلدان مثل كوريا الجنوبية وباقي بلدان شرق وجنوب شرق آسيا وبخاصة ماليزيا، التي فعلت الأمر نفسه أيا كانت المسميات التي وضعتها له.
كما أن الإحلال محل الواردات يضمن وجود طلب فعال على منتجات أي مشروع ويؤهله للنجاح والتصدير في اقتصاد منفتح على العالم، وينبغي ألا توضع إستراتيجية الإحلال محل الواردات في مواجهة إستراتيجية الإنتاج للتصدير للسوق العالمية، إذ يمكن بل وينبغي المزج بينهما بصورة مرنة تساعد على تحقيق النهوض والتطور.
ثالثاً: العملات المستخدمة في إعادة الإعمار:
لدى بدء عمليات إعادة إعمار سورية فإنها ستدخل مرحلة اقتصادية جديدة يتوقف عليها مستقبل النمو والتشغيل والتطور الاقتصادي ومستويات المعيشة في سورية لفترة طويلة، وعلى سورية أن تراجع منظومة تسوية تعاملاتها الدولية وبالتحديد العملات التي ستتم تسوية التعاملات الدولية من خلالها وذلك للمشاركة في جهود إصلاح نظام عملات الاحتياط الدولية الذي يشكل أحد أهم معالم اختلال وفساد النظام الاقتصادي الدولي الراهن، وبخاصة فيما يتعلق بالدولار الأمريكي الذي تبلغ حصته في وحدة حقوق السحب الخاصة نحو 41,73%، وهي حصة هائلة لا تستحقها الولايات المتحدة التي لا يزيد ناتجها القومي عن 23,2% من الناتج العالمي المقدر طبقا لأسعار الصرف السائدة، ونحو 16,1% من الناتج العالمي المقدر بالدولار طبقاً لتعادل القوى الشرائية، كما أن صادراتها لا تزيد 8,2% من الصادرات العالمية وتعاني من عجز مروع في ميزانها التجاري وميزان الحساب الجاري كما ورد آنفاً.
ويفضل أن تبتعد سورية عن عملة إمبراطورية الشر الأمريكية أي الدولار، وأن تعتمد في تسوية تعاملاتها الدولية على العملات الأخرى مثل اليورو واليوان وهما عملتان رئيسيتان في وحدة حقوق السحب الخاصة، أو عملات الشركاء الاقتصاديين على أساس سعرها بالنسبة لوحدة حقوق السحب الخاصة.
لكن ذلك الموقف في اختيارات عملة التسويات الدولية لا يتناقض أو يعيق تدفق أي أموال أو استثمارات بالدولار أو بأي عملة رئيسية أخرى.
رابعاً: خطوات عملية إعادة الإعمار:
هناك العديد من الخطوات والإجراءات التي ينبغي لسورية أن تعمل على إنجازها لتحقيق العملية التاريخية الكبرى لإعادة إعمار سورية، ويمكن تركيز تلك الخطوات على النحو التالي:
الأولى: إعداد خريطة شاملة للاستثمارات الصناعية والزراعية والخدمية الممكن إقامتها في سورية والتي تتوفر المتطلبات الأساسية لإقامتها، والتي تحتاجها سورية لمواجهة الاحتياجات الاجتماعية المحلية وللتصدير بحيث يجري ترويجها محليا وعالميا باعتبارها الخريطة الاستثمارية لسورية. ومن الطبيعي أن تتوطن المشروعات والصناعات الزراعية في المناطق الريفية التي تتوفر فيها الأرض والمياه والثروة الحيوانية والإنتاج الزراعي والحيواني الذي سيجري تصنيعه أو تجهيزه وتعبئته، أو تحويل مخلفاته مثل قش القمح والأرز وناتج تقليم الأشجار إلى ورق أو كرتون أو خشب حبيبي. ومن الطبيعي أيضا أن تتوطن مشروعات مزارع الأسماك في المياه العذبة أو في البحار المفتوحة وما يرتبط بها من صناعات أعلاف وصناعات تجهيز وحفظ وتعليب، في مناطق الساحل أو قرب موارد المياه العذبة التي ستقام فيها مثل تلك المزارع.
أما المدن والمناطق الصناعية التي ستشكل مع قطاع العقارات، القاطرة التي ستجر الاقتصاد فينبغي أن تتوطن في أكثر المناطق أمانا وقربا من الموانئ الرئيسية والمعابر الحدودية في اتجاه الأسواق التي تستهدف التصدير إليها لتخفيض نفقات النقل وتحسين القدرة التنافسية لإنتاجها. ومع تلك الضوابط ينبغي مراعاة العدالة الجغرافية في توزيع مشروعات التنمية الصناعية والزراعية والخدمية المحتملة سواء كانت عامة أو خاصة حتى لا تكون هناك فرصة للمتربصين إقليمياً ودولياً لإثارة أي حساسيات عرقية أو دينية أو مذهبية.
الثانية: إعداد مسح شامل عن قوة العمل السورية مشتغلين وعاطلين من ناحية العدد والمهارات التقنية والعلمية والعملية والتوزيع الجغرافي لها على خريطة سورية، ومستويات الأجور السائدة بالعملة المحلية وبما يعادلها من العملات الحرة الرئيسية مع مقارنتها بمستويات الأجور في الدول الجاذبة للاستثمارات في المنطقة العربية والعالم، وسيكون هذا المسح مفيداً لأي مستثمر محلي أو أجنبي يريد تأسيس أي استثمار مباشر في سورية حيث أن توفر قوة العمل المتنوعة المهارات والمعتدلة الأجر يشكل أمراً مهماً لأي مستثمر.
الثالثة: إعادة تأهيل وتطوير البنية الأساسية الداخلية بصورة تشجع الاستثمار المحلي وتجذب الاستثمارات الأجنبية، ويمكن تمويلها من خلال الموازنة العامة للدولة، ومن خلال الاكتتابات العامة للسوريين فقط في المشروعات ذات العائد مثل بناء الطرق التي سيتم فرض رسوم على المرور فيها والتي سيكون لها عائد مقبول للمكتتبين ومحطات الكهرباء وغيرها من المشروعات التي تجعل من صغار المستثمرين من أبناء الشعب السوري الذين سيساهمون في تلك الاكتتابات مشاركين في إعادة إعمار بلادهم وبصورة مربحة أيضاً.
الرابعة: تنظيم مؤتمرات في الداخل والخارج للترويج لفرص الاستثمار ولإبرام التعاقدات بشأنها في المراكز الرئيسية التي ترغب سورية في جذب الاستثمارات منها مثل روسيا التي ضخت نحو 266,3 مليار دولار كاستثمارات مباشرة خارج روسيا خلال الفترة من عام 2011 حتى عام 2016 كما ورد آنفاً وكذلك الصين التي تمت الإشارة آنفاً إلى أنها أصبحت ثاني أكبر مصدر للاستثمارات الأجنبية المباشرة في العالم.
الخامسة: اقتصار مشروعات المجتمعات العمرانية الجديدة السكنية على السوريين في الداخل والخارج ومع وضع معايير وتصميمات حديثة وراقية لتلك المجتمعات حتى تتم إعادة البناء والإعمار بصورة تشكل نقلة حضارية تليق بقيمة وقامة سورية الحضارية وبتضحيات شعبها العظيم في حربه الوطنية ضد الإرهاب.
السادسة: تطوير البنية الأساسية التي تربط سورية بالعراق والعمل على عقد اتفاقيات سورية عراقية بضمانات قانونية دولية لنقل النفط والغاز العراقيين من حقول كركوك والموصل وشرق بغداد وحتى بعض حقول الجنوب إلى البحر المتوسط مباشرة عبر سورية، وسيشكل ذلك عاملاً مهماً في تعزيز العلاقات مع العراق الشقيق وتقديم فرصة بديلة لتصدير نفطه بعيداً عن التوترات في الشمال العراقي أو تقلبات العلاقات مع تركيا، وبتكلفة أقل من نقل ذلك النفط أو الغاز عبر الخليج. كما أنه من الضروري العمل على جذب استثمارات مضمونة العائد لإقامة صناعات لتكرير النفط والبتروكيماويات اعتمادا على النفط العراقي لتصديره كمنتجات تنطوي على قيمة مضافة أكبر وعلى خلق فرص عمل عالية المستوى للعمالة السورية، كما يمكن أن تقوم مشروعات سورية عراقية لتطوير صناعة الأسمدة وبخاصة أسمدة اليوريا المعتمدة أساساً على الغاز، ويمكن للحكومة السورية أن تنظم اكتتابات عامة لتمويل بناء تلك الصناعات كمشروعات خاصة مضمونة الربح ويملكها حملة الأسهم السوريين ويديرها مديرون تنفيذيون على درجة عالية من الكفاءة والنزاهة نيابة عنهم تحت رقابة وإشراف الدولة والأجهزة الرقابية لمنع أي فساد أو تلاعب، مع وجود حصص للدولة فيها تسمح لها بتصويب الإدارة، فضلاً عن أنها تعطي المكتتبين في تلك المشروعات ثقة وأماناً بشأن استثماراتهم فيها.
السابعة: تكوين حضانة قومية مركزية وحضانات محلية في كل قرية وقضاء ومحافظة لرعاية المشروعات الصغيرة والتعاونية، وتتكون الحضانة من أعداد محدودة من المتخصصين رفيعي الكفاءة والمؤمنين بإمكانية تحويل بلادهم إلى ورشة عمل وتشغيل وإنتاج من خلال تلك الحضانة. وتكون مهمات الحضانة هي مساعدة الراغبين في إقامة مشروعات صغيرة على اختيار مجال العمل المرتبط باحتياجات المجتمع المحلي وبالخامات المتوفرة فيه كأولوية أولى وليست وحيدة، والمساعدة في إعداد دراسات الجدوى الاقتصادية لتلك المشروعات، وتوفير التمويل الميسر لها سواء من خلال أموال تخصص لها في الموازنة العامة للدولة، أو من خلال التمويل المصرفي الميسر المدعوم من الدولة لتخفيض الفوائد عليه، أو أموال المنح والقروض المقبولة الشروط، وربما يكون الاتحاد الأوروبي بالذات مرشحاً لتقديم منح كبيرة لاستيعاب الشباب السوريين في مشروعات محلية بدلاً من تدفقهم في هجرات عير قانونية إلى بلدان الاتحاد.
كما ينبغي أن تقوم الحضانة بالتنسيق بين المشروعات الصغيرة حتى تكون متكاملة ولا تتركز في مجال واحد وتتنافس حتى الإفلاس، وستكون الحضانة معنية برقابة تلك المشروعات لضمان التزامها بالمواصفات القياسية لضمان سهولة التسويق الداخلي والخارجي لمنتجاتها، وسيكون منوطاً بالحضانة ربط تلك المشروعات الصغيرة والتعاونية بمشروعات كبيرة لتنتج سلع وسيطة أو نهائية لها، وربطها بسلاسل تجارية أيضا لضمان التسويق والاستمرار، ومتابعتها خطوة بخطوة لضمان نجاحها وعدم تعثرها، وذلك بالتعاون مع الجمعيات الأهلية المحلية.
وهناك عدد هائل من المشروعات الصغيرة التي يمكن إقامتها في سورية بصورة متباينة من منطقة لأخرى حسب نوع المواد المتاحة في البيئة والاحتياجات المحلية من السلع والخدمات، مثل مشروعات الصناعات البلاستيكية وتدوير القمامة لصناعة الأسمدة العضوية وأكياس القمامة، وورش الحدادة والخراطة وصناعة المعدات الزراعية، وصناعة الأواني المنزلية من الألمونيوم والحديد غير القابل للصدأ، وصناعة الأبواب والشبابيك الخشب والألوميتال وصناعة الفوانيس الصاج والبلاستيك، وصناعات التذكارات السياحية والحلي والاكسسوارات من الأحجار الكريمة ونصف الكريمة، وصناعة الملابس الحديثة والشعبية والتراثية والأعلام والكليم والسجاد اليدوي والآلي، وصناعة لعب الأطفال، وصناعة المفروشات والستائر المطرزة يدوياً وآلياً، وصناعة مفروشات السيارات، وصناعة المرايا والزجاج، والنجارة بكل أنواعها وصناعة الموبيليا من الأخشاب والمعادن بصفة عامة، وصناعة الموبيليا، والمناحل، وعيش الغراب، والمحاصيل الطبية والعطرية وتصنيعها، وتربية دود القز لصناعة الحرير، وتربية الأرانب والدواجن والماشية، وجزارة وتجهيز وتعبئة اللحوم، وصناعات دباغة وتجهيز وتصنيع الجلود كحقائب وملابس وأحزمة وأحذية، ومزارع الأسماك والرخويات في البحار المفتوحة وتنظيفها وتجهيزها وتعبئتها، وتنظيف وإعداد وتكييس الحبوب بمختلف أنواعها، وصناعة الحلوى والمخبوزات والمربي والعصائر والصلصة والزيوت والفحم النباتي، وتجهيز الخضر والفاكهة وتكييسهما وتعليبهما، وصناعة المخللات، وتعليب الأسماك، وغيرها من الصناعات الصغيرة المرتبطة كما ورد آنفاً بالمواد المتوفرة في كل محافظة والمرتبطة باحتياجات السكان أساسا،ً فضلاً عن المشروعات الخدمية مثل المطاعم وصيانة الأجهزة المنزلية والحاسبات الآلية والسيارات والدراجات العادية والنارية وغيرها من المشروعات.
أخيراً: بالانتصار على جحافل الإرهابيين تدخل سورية عهدا جديدا ينبغي أن تكون روافعه الأساسية هي التنمية الاقتصادية والتشغيل وتمكين البشر من كسب عيشهم بكرامة والعدالة الاجتماعية والحرية والكرامة والنزاهة لفتح بوابات المستقبل بما يليق بقيمة وقامة سورية الحضارية ولبناء نموذج من التقدم والتطور القائم على العلم والعمل وإرادة النهوض وليس على ريع ثروات ناضبة أو على ريع ملاذات الأموال الفاسدة والملاذات الضريبية كما هو الحال في البلدان الأقل تطوراً وتحضراً والأكثر فساداً في المنطقة.

– باحث وأكاديمي مصري، والرئيس السابق لمجلس إدارة مؤسسة الأهرام، والمادة المنشورة هي جزء من دراسة للباحث في المؤتمر الاقتصادي الأول الذي أقامته جامعة دمشق وتجمع سورية الأم في كانون الأول 2017