ثقافةصحيفة البعث

شعريّة البداهة والفطرة

 

“حين يرفع الزّعتر علماً لجمهوريّة المراعي”
“آهٍ أيّتها البراري الموحشة”

فراش الدّهشة الوثير:
أن تكون مفردات شعرك مضفورة من جدائل الطبيعة وقلائدها وهسهسات عناصرها: “زعتر، قرقفان، أفعى، ثور، عصافير، عشب، ذئب،أعراس النّبات، أكاليل السّحابة، النّار، المطر، تزاوجُ الفصول، الخ” يعني أنّك عاشق كبير لا تغفو له عين، خوف يمرّ طقس ولادة على غفلةٍ، ولا يراه. عاشقٌ مدمن لأنوثةِ هذا الكون وكيمياء خلقه، يشرعُ مشطَ روحه كلّ قصيدة، ليفلّي الدّوالي من نمش الشّمس والظّلال، ماسحاً عن خدود الفجر،قطرات النّدى وهي تنثال برقّةٍ وعذوبةٍ بين عثاكيل الشّجيراتِ البكر، وقد فاض بها النّبض وتهيّج منها النّسغ أمام مداعبات أنامل النّسيم، تلامس شغفَ الألفة وقبابها الأكثر حميميّة. ها قد أعليتَ قوس قزح المسافة، لم يعد ثمّة مكان للشّبهة في نواياك، وقد بلغ العشق أوجُهُ في انتباهتك اليانعة نحو بواطن الاستسرار والوجد. ها أنت تقطف شهدك من رأس النبع تماماً، نبع العسل”جائزة البرّية الكبرى”، تباغتُ خلايا النّحل الغافية في أخاديد “الشّير العميق” شير “بشنّانة”، وصخورها العالية، لتبعثر متاهة الهندسة وتهتكُ أسرار العلوم، أيّها الولد العابث بمصير الخلق، من أنتَ، بحقّ أمومة هذا النّبع؟. ألستَ سليل تلك الطّائفة الملعونة من شعراء الحريّة المفطورين على حياكة الشّغب النبيل؟!. تلك الثّلّة من لصوص العشقِ، تتلقّفُ الثّمرة في أوّل بكورتها دون أيّ بهارات أو توابل، ترشّ عليها التّعاويذ المطيرة لتنضجَ أكثر. وهل ثمّة أنصع وأرقّ وأطهر من تفّاح البدء وقد أكملَ معادلة انبلاجه،وأنجز دورة توهّجه في شفاه الصبايا، معتلياً فتنةَ صدورهنّ باقتدار. هنا بالضّبط سيحلو لكَ أن تقدّ موّالك وتشحذه من صلافة الرّيح وغبطةِ الماء،محاولاً تقليد الرّاعي العجوز “حسن” صديق العصافير، حامي أعشاش الطيور، حارس القطيع، كبير الرّعاة، شيخ العشب، ابن السنديان، رفيق البريّة الأبديّ، بعصاه التي تشير للصّبح كي يخرج من الجبل، وللشّمس أن تجفّف خدود الأعشاب “ثمّ لتتابع جولتك الاستكشافيّة في رحاب مملكتك الشاسعة، مملكة الأسلاف الرّعاة “جلجامش، وأنكيدو”، مترصّداً حركة الأفعى المتربّصة فتكاً بصغار القبرات،قبل أن تهرس رأسها بهراوتك،لكن هيهات. المشهد التراجيدي يأبى إلّا الاكتمال،وصغار الطّير،ستطفو بعد قليل على سطح المشهد أمام قلبك المفجوع، وأنت ما تزال تقلّب ناظريك المفتونين بملامح الأفعى الرّقطاء، يلتمعُ جسدها تحت شلّال الشمس ويتموّج كذهبٍ عتيق، لن تفيد تهويمات الأمّ وإشاراتها الغامضة المدوّمة في الفراغ. وهي تحاول نقل رسالة استغاثتها إلى كائنٍ ما، لكن دون جدوى: “مرّتْ قبّرة ثمّ انسفحتْ كبرقٍ وصعدتْ كرصاصةٍ، مرّاتٍ عديدةٍ تأتي وتروح في طقسٍ غريب، وفي حمّى طيرانها تبرز اللهفة من تغريدها الغاضب، وضربات أجنحتها المجنونة”. لا تبتئس، يا بن البراري،هو مسرح الطّبيعة الغريب العجيب كما الحياة بمآسيها وأفراحها. فاهدأ ودع روحك لسجيّتها تتناغم مع صباح فجر جديد يصعد إلى عليائه بثقةٍ، مع صياح الدّيكة،حيث طقس ولادة الحملان، وشروق شمسِ الجسد. ستبرقُ لكَ امرأة المراعي إشارات صبابتها،وفتكها المجيد، عبر وشوشات السّاقية، ونبض العشب، عبر عصف الرياح وتمتمات المطر: أن تعال إلى كهفنا المُشتهى، جنّة خلدنا الأبديّ لنضرم نار العشق الخالدة، من جمر جسدينا المحترقين حبّاً واشتهاءً: “فتتماوج الحياة في عروقك بضراوة عارية، لترى الشجرة فتتخيّلها صبيّة تتعرّى، وتحضن الصّخرة فتستحيل أنثى مشرعة للحبّ” ما الذي تنتظره بعد أيّها المنهوب بنوايا السّنبلة، سوى أن “تضع راحتك على أذنك وتفتن الهضاب بالمواويل” لتبدأ جنيّات الكون بالرّقص على صدى شرارات روحك المستعرة: “عارياتٍ كضوء القمر، يغسلنَ نهدَ المساء بالنور، ويجدلنَ الأساطير في شحوب البراري” وسرعان ما سترى نفسك المفتونة، تنقاد مسرنمةً من أكمام حلمها لتنضمّ إلى عرس الطبيعة،البهيج، فتبدأ تسليتك المحبّبة، بضفر ظلال المشهد وغدائره “أكاليلاً للسّحابة الخضراء” متقمّصاً هيئة سليمان الحكيمٍ العارف بلغة الكائنات: “لتسأل النّملَ المتعبَ، كيف امتلكتَ حكمة النّوم أيّها السيّد الكثير؟! “ثمّ لتنسلّ عابراً في دروب الحنطة لتكون الشّاهد على استدارة الأرغفة ولهاثها الفائر من فم التّنور، ووهج أكفّ النّساء المبتهجات، وهنّ ينتظرنَ بشارة النّضج ليقدّمنَ سلافتهنّ الضّاجة استواءً للأفواه المسغبة،تنتظر على أحرّ من الجمر، فتبدأ روحك طقسَ تحوّلاتها: “تدخلُ في الخبز، تنضجُ على وهج الأفران، يختلطُ فيها عرق الفرّانين وضجّة الصبَية، ثمّ تنهارُ في رغبات الجائعين منسيّاً ومقهوراً مثل الحنطة في التراب” وفجأة،تتذكّر أنّك طُردتَ من جنة خلدك بضربةٍ هبوط واحدة إلى أرض الواقع، ضربة ماهرة الوجع، وجّهتها لك مطرقة “المدنيّة” فـ”تلعن هذا الطقس الملوّث بدخان الحضارات صارخاً بنباهة زورباويٍّ شريد: “أنا الضوء الملعون في الجسد، السّجين في أضلاع القبّرة، المسيّج بحكمة الشيوخ” لا أوافق، لا أوافق، لا أوافق.

الحريّة هاجس الشعر:
في اعتراف “هايدجر” أنّ سبب اختياره للشاعر “هولدرلن” لتبيان أهميّة الشعر يرتكز على أنّ التّصميم الشّعريّ لديه قائم على التّأمّل بماهية الشّعر نفسها، من خلال التّعبير بالشعر عن مثل هذا التأمل ولكن، يا للخسارة! أن يضطّر الشاعر للتّعبير عن ماهية شعره، بدلَ أن يتركَ لشعره أن يقول نفسه كما هو، وبما لا يستطيع التّنظير الإتيان به. شاعر “رعويّات” هو واحد من قلّة وعتْ مثل هذه المسألة الجوهرية للقول الشعري، وبأنّ “أروع الجرار تصنع من الطّين العادي، وأروع الأشعار من الكلمات البسيطة”، فانتمتْ للجوهر ولفظتْ القشور، قطفتْ زيتونها مبكراً من شجرته المباركة، بلا مقّدمات أو سلالم أو عكاكيز، وعصرتْ زيتها في “الباطوس” دون فلاتر أو مصافٍ، فأتت كلماتها طازجة نديّة مستحمّة بماء ذاتها وأعشاب ضوئها الشّفيف. عارية صافية، يقول: “هلمّوا إلى عبق “التّلمة” إلى أفراحها، تعالي يا نعناعة الرّوح واحلبي لنا: نعجة أو ماعزاً في سطلك الفضّي، وأنت ” ياعليّ” هيّا إلى شجرة التّين اليانعة، واكسروا غصناً أخضر محمّلاً بالثمار البكر، لنلقي فوق الحليب الساخن قطرات من “الفقّاع” الدّبقة، لحظات يا أولاد ويشعّ قرص “التّلمة” الرائع فلا تتدافعوا بالمناكب، كل منكم له حصّته، ما أروع الحريّة، ما أعظم العدل، ما أبدع الحياة”.
هكذا هو الشعر، طائر حرّ لا يهوى الأقفاص،أجنحته المتعاليات،بصيرته الأعماق البعيدة الغور، يكره التقييد والتعريف والبهرجة معلناً انتماءه للضّوء ولثغة الينابيع، يقول: “أنا عدو الأصفاد والدّرك والنياشين، أحزّ قلبي لأزرعه في البريّة المضاءة بالثّلج والشّوك، ذكرى الهيام النّهائي، بالشّمس والمطر والعشب والحريّة”.

سؤال الشعر/ طاقته اليانعة:
لعل أسوأ ما يتعرّض له الشعر هو أن يقاس بمقاييس ليستْ له كـ “الخطابة والفكر وغيرها”. لأنّ للشّعر مقياساً ذهبيّاً واحداً، موجود في ذاته، يلخّصه سؤال: كم هو منسوب الأدبيّة فيه؟ أو هل ثمّة فنّ أو لا فنّ في القصيدة؟. المهارات الأسلوبية قد تكون ضرورية حقيقة، لكنّها قد تتحصّل بطريقة استبطانيّة من خلال خبرة الشاعر في ارتشاف عصارة اللّغة من جهة، وإمكانيّة تطويع كيميائها في مختبره الوجدانيّ وخبرته الأنطولوجية في الحياة عموماً. الشّعر ليس بهلوانيّات افتراضيّة تقفُ ضد انسيابيّة تدفّق الحساسيّة، ما يلزم لمتحِ مياهه الجوفيّة فقط، هو تركها لغزارة وقوّة عفويّتها ووعيها لحرارة الحياة والجمال. لا حاجة للرّوافع وبطاريّات الضّخ لتطفو على السطح. والشعريّة كما يوضح “جاكوبسن” هي أنّ موضوع الرسالة هو الرسالة نفسها، وبذلك تكون غير نفعيّة. حيث المضمون الشعري لا يستهلك في الاستعمال اللغوي، طاقة الشعر تُحفظ في الشّكل الشعري ولا تتبدّد. يقول الشاعر ممجّداً ببساطةٍ شديدة صديقه “الزعتر”: “يا لك من يقينٍ نقيٍّ وأنت تحضنُ جسد الشّنكليش لتحميها إلى شتاء قارسٍ وبخيل، ما أروعك، وأنت تتلألأ في الزيت، وفوق خبز الرّعاة البسطاء! أنا وشعب الفقراء سوف نشكّل من حروف اسمك الأربعة كلمة السّر التي قاومتْ أيام الجوع، ومن ألوانك القزحيّة الخضراء الرمادية، سنحيك راية ونرفعها علماً وطنيّاً لجمهوريّة المراعي”

جدليّة اللغة/ الشّعر/ الكلام:
يقول “هولدلن”: “لهذا مُنحتْ اللغة وهي أخطر النّعم للإنسان، لكي يشهد على ماهية وجوده” وبما أنّ لغة الفلسفة والمنطق يحكمهما الجفاف فإنّ تصفية الوجود من جفافه ليستْ ممكنة،إلّا من خلال فلتر الشعر، باعتباره القميص الأزهى الذي يرتديه الكلام ليشفّ ويتبغدد ويسمو في نظر نفسه أولاً، ونظر متلقّيه ثانياً. يقول عالم اللغة “دي سوسير” أنّ هناك شيئين مختلفين تماماً، أيّ “اللغة، والكلام” حيث اللغة تنتجها الجماعة تاريخيّاً، والكلام ينتجه الفرد داخل كيان ونظام اللغة. اللّغة قواعد ومعاجم وأطر، والكلام إجراء شخصي يستخدمه المرء يومياً من خلال أحاديثه مع الآخرين. الكلام عبارة عن مشافهات رغم خصوصيّته حسب اللّون الخفيف الذي يضفيه عليه متحدّثه، والشعر استخدام خصوصي ضمن خصوصيّة الكلام الشخصي نفسه. فإذا كان الشّعر تدخلاً انزياحيّاً في مسار الكلام العادي باتّجاه الجمالي، والكلام تدخّلاً في نظام اللغة،فالشّعر إذن هو تدخّل مزدوج، لذلك تفيض به اللّغة وتكبر ويزدهي الكلام ويتشعرن.
شاعرنا لم يذهب إلى البعيد ليصطاد أسماكه، بل ذهبَ في صباحٍ مبكر إلى حقله ومخيّلته المثقوبة وطفولته الهاربة المشلوحة على وهاد وتلال وصخور الأمس. على طريقة ذاك الجبليّ الذي قرّر حراثة أرضه البعيدة عن القرية كثيراً، فتوجّه إليها مساء حتى يكون في الصّباح الباكر قريباً منها، وحين وصوله مدّ عباءته واستلقى عليها، ثم نهض مبكراً إلى العمل فلم يجد أرضه. حزن الجبلي وقرّر العودة إلى بيته خالي الوفاض، وما إن رفع العباءة عن الأرض حتى وجدها متجمّعةً تحت العباءة. هكذا حمل الشاعر” محمود عبد الكريم” حقله وبذاره وقطوف ذاكرته النديّة، في عباءة روحه. وبعثرها أمامنا، فكانت هذه الثمار الطيبة.

مباهجُ القصيدة في “الرّعويات”:
يقول “حمزاتوف”: “حين لا يغنّي الرّعاة،تكفّ النّعاج عن قضم العشب، لكن حين تعلو الأغنية فوق السّفح الأخضر، ترعى العشب حتى الحملان الجاهلة التي ولدتْ توّاً “.
تحتفي الـ “رعويّات”بعشب كلامها البسيط، المغسول،الملتقط من فم التّرعة، ساعيةً لشعرنة التفاصيل الصغيرة،وتفخيخ الرمزيّة بالوضوح الجميل الذي يذهب مباشرة نحو لبّ الأشياء وجوهرها، ملتحمةً بذرّات التراب ورائحته وذاكرته وشهقة فلزّاته، لا تتعكّز على محسنات البديع ولا تسندها مداميك البلاغة والوزن والقافية إلّا قليلاً. تمضي مفردتها النّحويّة نحو نهاياتها الخيطيّة، حيث الفعل والفاعل والمفعول به والجار والمجرور والمضاف إليه يأتيان تباعاً. وحدتها وتماسكها لا يسمحان بحذف أيّة جملة من النّصّ، تمتدّ كلوحة متكاملة، من منبعها وحتى مصبّها، لا تتفرّع ولا تحيد، قد تنقطع انسيابيّتها بحدث ما كشأن قصائد الحداثة، لتعود ثانية إلى مجراها الأساسي. زمنها يمضي كرونولوجيّاً، متفجّراً من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل، يقول الشّاعر: “إيهٍ يا أولاد، إنّه الرابع، إنه نيسان الأزرق، مثل حذاء الصبية الغريبة، مثل عرف الديك مثل حلمة لينا، يا مريم يا حسنا يا صبايا إليّ بأحذيتكنّ الجديدة لأرفعها في رابعة النهار رايات فوق رؤوس أبناء البكوات.”شبوش” لكَ يا فحل الرّقص يا راعي المرسح، زغاريد لخصر الصبية، لحمرة الشّفتين لضنى القلب والجسد للخصور المهصورة، اقرع يا طبل الغجر بجنون لعيد الحرية الأبيض”.
ختاماً أدعوكَ، أيّها القارئ الكريم، قبل أن ترتشف زيتون وزعتر صّباحك الشّهيّ، وأنتَ الواقف على عتبة الهنيهة الماطرة بكاملِ رزانتك العصريّة، أن تخلعَ وقارَك قليلاً، وترتدي قميصَ الطفولةِ العتيق لتطاردَ معي زهو الفراشات ودندنة الزّرازير، فأنت في حضرة الشّعر.
أوس أحمد أسعد