ثقافةصحيفة البعث

حرائق صغيرة في كلّ مكان

 

“حلم كل كاتب أن يكتب رواية تلقى جمهوراً جيداً يحبونها حقاً ويتشوقون للتالي.. هو شيء سريالي جداً، أن يسير الجميع معي جنباً إلى جنب” هذا ما تقوله محبوبة نوادي الكتب الجديدة، كما يطلق عليها النقاد، الروائيّة والكاتبة الأمريكيّة من أصل صيني، سيليست نغ.
روايتها الأولى” Everything I Never Told You /كل شيء لم أقله لك” كانت رواية العام لموقع أمازون عام 2014، وترجمت إلى 15 لغة. وروايتها الثانية “Little Fires Everywhere” عن التمييز العنصري والأسرار العائلية، أشعلت أمريكا واحتلّت أيضاً المركز الأوّل كأكثر الروايات مبيعاً العام الماضي. وبالرغم من كلّ الضجة والشهرة والجوائز، إلا أن الحضور العربي للكاتبة معدوم، فلا تراجم لعَمَليها حتى الآن.
أيّ نوع من الكتب تكتبه نغ، رواية أدبية أم حبكة ملتهبة؟ لا يتفق النقاد حول هذه النقطة، ولكن الأكثرية يدرجونها تحت مسمّى رواية تشويقيّة، لأنها تقوم على أساس الحاجة إلى المعرفة، مع عدم وجود أي شيء لا علاقة له بالحبكة.
تستأثر الرواية على أحاسيسنا من البداية وحتى النهاية، لدرجة أننا نفكر بها وإلى أين ستأخذنا حتى ونحن لا نقرأها. واستخدام نغ للإشارات الصوتيّة الجامحة يدلّ على شخصيّة الكاتبة المسيطرة بشكل كامل.
بدأت نغ بنفس الأسلوب الناجح الذي اتبعته في روايتها الأولى، المباشرة والوضوح وعرض الحقائق وإظهار أن الراوي لديه كل الأجوبة، “ليديا ميتة، لكنهم لا يعرفون هذا حتى الآن”. ومع وفاة الابنة الحبيبة لأسرة مختلطة العرق في ولاية أوهايو، بمأساة احتراق منزل العائلة ومحاولة معرفة السبب. “إن رجال الإطفاء يجزمون بأن الحريق مفتعل، فقد كان هناك حرائق صغيرة في كل مكان.. الكلّ في مرتفعات شيكر كان يتحدث عن ذلك هذا الصيف، كيف أن إيزابيل آخر فرد من عائلة ريتشاردسون، خرجت من المنزل المحترق”.
وتوفر مرتفعات شيكر، التي نشأت فيها الكاتبة نفسها (وهي ضاحية في مدينة كليفلاند بولاية أوهايو) خلفية مثالية لواحدة من أكثر الأفكار المركزية في الرواية، الحكمة أو عدم جدوى التمسك بالقواعد. ولدت وترعرعت السيدة ريتشاردسون، والدة إيزابيل، المشتبه به في إشعال الحرائق، في مرتفعات شيكر، ولطالما اعتقدت أنها إن عاشت ضمن القواعد واتبعت النظم، لن يصيبها أي ضرر. تحطم عالمها تماماً بحدثين شكلا خيوط الحبكة الرئيسة في رواية نغ. أولهما، وصول المصورة الغامضة ميا وابنتها المراهقة بيرل. وثانيهما، قضيّة الحضانة لطفلة بين والدتها الحقيقية وهي مهاجرة غير شرعية من الصين، وبين زوجين بيض ربيا الطفلة.
ويرافع السيد ريتشاردسون، عن الزوجين البيض، وهو واحد من العديد من الأشخاص المشكك في تفانيهم للنظام. “المشكلة مع القواعد، أنها تضمن طريقة صحيحة وطريقة خاطئة للقيام بالأشياء. وفي الواقع، هناك طرق في معظم الوقت وبكل بساطة، لا شيء منها خاطئ تماماً أو صحيح تماماً، ولا شيء يخبركم يقيناً على أيّ جانب يجب أن تقفوا “.
وعليه الجانب الأخلاقي غامض في الرواية، والصوت العالم بكل شيء (الراوي) يسمح لها بالوصول إلى كلّ الزوايا لإزالة أي عقبات أمام سلسلة مثيرة ولكن مستحيلة من كثرة التقلبات والمنعطفات. وحتى التوصيف يوفر دافعاً للمضي بالقصة، كما تموت إحدى الشخصيات لتسهيل عقد اجتماع بين ثلاثة آخرين. وهذا مشابه لنمط الإثارة الكلاسيكية، يتم حجب المعلومات، على الرغم من معرفة الراوي لكل الأحداث، فإنه يختار ألا يخبرنا ماضي ميا حتى منتصف القصّة. ولأنها مثيرة، لا يمانع القارئ ذلك.
هل تعاطفت نغ سرّاً مع طرف على حساب الآخر؟
سؤال مهم.. للوهلة الأولى يظنّ القارئ أن الراوي ينحاز للأم الفيزيولوجية، ولكني أعتقد أن الكاتبة أرادت من القارئ أن يرى كيف أن لكل من هاتين المرأتين سبباً مشروعاً للتفكير بنفسيهما كأم للطفلة.
ولا يخفى تَأَثّر رواية نغ بطفولتها، فهي الآسيويّة الوحيدة في مدرستها، ودائماً كانت تتعرّض وعائلتها للشتائم العنصريّة والإزعاجات الهاتفيّة والبريديّة، وفي إحدى المرّات طلبت معلّمة الصف الثاني رسم “بابا نويل” ليلوّنه كل الطلاب بالأحمر والأبيض إلّا نغ لونته بالأزرق. وتقول “لم يكن قراراً واعياً، علمت أن الجميع سينظر إليّ على أنني مختلفة حتى في هذا، ولكن كان من المضجر لي أن تكون كلّ الرسمات بذات الألوان”.
إضافة لذلك، تأثَّرت بالإرث العلمي لوالديها (كانا عالمين، واشتغل والدها مع ناسا)، خيالها نوع من المختبر، تضع فيه شخصياتها تحت ضغوط شديدة لمعرفة ما سينتج من أسرار، مع الاعتراف بأنه غالباً ما تطرح هذه الشخصيّات أسئلة بلا أجوبة.
ويؤخذ على نغ قلّة جودة النثر وتكرارها لتشابيهها، في الصفحة 101 “كلمات إيزابيل.. لمست والدتها كأننا نلمس كدمة قديمة بأصابعنا” وفي الصفحة 318 “كما لو كنا نضغط بشدة على كدمات جديدة”.
ولكن ما سيضمن نجاح هذا الكتاب، أنه في الوقت الذي تشدك الحبكة لإكمال الكتاب، يشتعل داخلك نقاش ملتهب حول العرق والأبوة. هذا هو، ربما، ما يخلق الارتباك حول تصنيف الرواية الأدبي. ونقطة القوة في الرواية أن نغ جعلت أحداثها في التسعينيات، حتى يتمكن القراء اليوم من الاستمتاع بغموضها الأخلاقي وبنفس الوقت بالأمان فمثل هذه القضية قد لا تحدث في المجتمع الحالي. وعندما يسمع القرّاء بسؤال الراوي الذي يلخص معركة الحضانة، “ما الذي يجعل أحداً ما أمّاً؟ هل هو علم الأحياء وحده، أم الحب؟” بالتأكيد سنشهد إقبالاً على نوادي الكتاب حول العالم لطلب نسخٍ من هذا العمل الرائع.

سامر الخيّر