دراساتصحيفة البعث

ستون عاماً على الوحدة .. ماذا بقي من الأمن القومي العربي؟

د. طالب إبراهيم
شكل توحيد سورية ومصر حلماً جيوسياسياً ذي أبعاد تاريخية، ومنذ بزوغ عصر الإمبراطوريات القديمة أدرك الأباطرة والملوك أهمية المحور السوري المصري، وصعوبة، إن لم يكن استحالة احتواء التداعيات الجيوسياسية التي قد تنجم عن حدوث اتفاق بين البلدين، وحتى في حالة نشوب صراع بينهما، فقد كان في أغلب الحالات ينتهي بمصالحة دراماتيكية، كما جرى في معركة قادش عام 1287 قبل الميلاد، التي انتهت بزواج ملكي كما هو معروف.
ومن ناحية أخرى قادت محاولات توحيد البلدين عبر التاريخ إلى نتائج عظيمة، كما جرى في عهد صلاح الدين والظاهر بيبرس ومحمد علي، ومن المفيد جداً النظر إلى العلاقات السورية المصرية من المنظور الجيوسياسي، لأن علاقة البلدين، سلباً أم إيجاباً، تنعكس على مجمل الوضع العربي، لا بل وتتعداه إلى الوضع الإقليمي والعالمي.
والواقع أن مصر واحدة من بلدان قليلة في هذا العالم التي تمتلك خاصية الامتداد الجغرافي بين قارتين، حيث يوجد قسم من أراضيها في القارة الآسيوية وهو “شبه جزيرة سيناء” والباقي في أفريقيا، كما تمتد سيناء بصورة طبيعية عبر حدود مع فلسطين، وتلاصق قطاع غزة وتقترب من غور الأردن ومرتفعات الجولان السورية، ولقد فرض هذا الوضع على مصر بأن يكون “اختيارها الآسيوي غريزياً ” كما عبر الكاتب محمد حسنين هيكل عنه بالقول: “على أرض مصر دارت واحدة من أهم المعارك التي حسمت مصير وسيرورة الحرب العالمية الثانية، وهي معركة العلمين الشهيرة التي قادها الجنرال البريطاني الشهير مونتغمري ضد المارشال الألماني رومل” ولهذا السبب تحدث غلاة المحافظين الجدد عن عالمنا العربي عشية احتلال العراق على النحو التالي” “العراق مجرد خطوة، والسعودية مرحلة، لكن الجائزة الكبرى ستكون في مصر”.
وحسب منطق الجغرافيا السياسية لسورية ومصر، يشكل البلدان برزخ آسيا وأفريقيا، في منطقة فلسطين والأردن وشبه جزيرة سيناء، كما أن البلدين الجسر الرابط بين جناحي العروبة في الشرق والغرب، وهذا الرابط ذو ثلاثة أوجه هي: جغرافي وسكاني وثقافي، ومن سورية خرج إبراهيم الخليل العراقي الأصل إلى أرض مصر، وهو من أبناء منطقة أور جنوبي العراق ومن ساكني حران الواقعة شمال سورية الطبيعية، وتلقى البركة والتطويب على يد الملك العربي المقدسي “ملكي صادق” الذي وصفته نصوص العهد الجديد والقديم بأنه ملك البر والتقوى والكاهن “الولي” الأبدي، ومن سورية خرج المسيح الطفل وأمه هاربين من بطش بيلاطس، وعبرها تقدمت جيوش فارس وآشور إلى أرض الفراعنة، وعبر مصر تقدمت جيوش الاسكندر ونابليون إلى بلاد الشام، وهذا يعني أن أمن سورية “بلاد الشام” هو جزء عضوي من أمن مصر”بلاد النيل” وأن وهن أو انكشاف الأمن الوطني لأي من البلدين يعني انكشافاً قد يكون أكبر وأخطر في البلد الآخر، فأمن سورية الوطني زائد أمن مصر الوطني يساوي الأمن القومي العربي، ولا يعني ذلك بحال من الأحوال التقليل من أهمية باقي البلدان العربية وأهمية أمنها الوطني، لكن عندما تكون علاقة سورية ومصر بخير تكون الأمة العربية بخير وبالعكس، ولا يمكن لأي قوة سياسية في المشرق العربي أن تنشأ إلا بتوحيد سورية ومصر.
ولقد أدرك العرب هذه الحقيقة منذ أزمنة قديمة، ففي عهد الملكة التدمرية المستنيرة زنوبيا حاولت بناء دولة قوية في الشرق العربي، ويبدو أن الملكة التدمرية أدركت أهمية التكامل الجيوسياسي بين سورية ومصر، قبل ظهور علم الجغرافيا السياسية بقرون طوال، ومن أجل تحقيق هدفها في بناء الدولة القوية، وجهت الزباء أنظارها إلى مصر ووضعت الخطط للسيطرة على هذا القطر، ما نفهم منه أن توحيد البلدين مطلب شعبي في سورية ومصر قبل أن يكون مطلباً للقيادات.
وقبل عصرنا الحالي بقرون طوال فقد ساعد عرب مصر من سكان الأقسام الشرقية من مصر، جيش تدمر مساعدة كبيرة، ولا سيما فيما جرى من قتال حول حصن بالبيلون الذي عرف بالفسطاط فيما بعد، وبنفس الطريقة التي ساعد فيها عرب مصر المسيحيين منهم وغير المسيحيين، جيش عمرو بن العاص على التغلب على أم القلاع الرومانية في الشرق العربي.
إن العلاقة السورية المصرية هي أكبر من طموحات الحكام وأقوى من إرادات الفاتحين والمستعمرين وترقى إلى مستوى العلاقة القدرية الحياتية، فلا عروبة بالمعنى السياسي لمصر بلا سورية، ولا ينفع سورية إذا ربحت العالم وخسرت مصر، وفي العصور الحديثة كانت محاولة محمد علي توحيد البلدين إدراكاً استراتيجياً لهذه الحقيقة، كما كانت محاولة الرئيس جمال عبد الناصر توحيد البلدين عام 1958 رداً على المشروع الصهيوني الاستيطاني، في فلسطين المحتلة، لكنها كانت أيضاً استجابة واقعية ومنطقية لضرورات الجغرافيا وأقدار التاريخ، ومن هنا نفهم خسارة سورية ومصر لحرب 1967 ولماذا وقع العدوان عليهما معاً، فانكسار أو هزيمة القاهرة، هي انكسار وهزيمة لدمشق، ولو صمدت مصر في عدوان 67 لما احتل الصهاينة الجولان، وكذلك الأمر فقد حررت الجيش العربي السوري جبل الشيخ وذرى الحرمون عندما عبر جيش مصر قناة السويس، وذلك عندما خاض البلدان معاً حربهما الناجحة في تشرين أول 1973
وإذا كانت سورية ومصر تشكلان الجسر الرابط بين جناحي العروبة الشرقي، بلاد الرافدين والجزيرة العربية، والغربي المغرب العربي الكبير، فإن التعاون والتكامل السوري المصري العراقي يكتسب أهمية قصوى للأمن القومي العربي، إذ تؤلف البلدان الثلاثة سورية مصر العراق معاً رأس ما يمكن أن نطلق عليه القوس العربي، ويشكل هذا القوس درعاً يحمي الجزيرة العربية واليمن وباقي دول الخليج، ويحيط بالقارة الأفريقية من جهة الشمال، ولقد عرفت هذه المنطقة في الزمن الغابر باسم الهلال الخصيب، وهي أكثر من مجرد منطقة مراعي واستيطان إنها وحدة جيوسياسية متكاملة من كافة النواحي تقريباً، وتقع دمشق في منتصف الطريق بين القاهرة وبغداد، تقريباً، بل إن المسافة كخط طيران مباشر من دمشق إلى القاهرة تكاد تعادل المسافة بين بعض أجزاء سورية الحالية، وتقارب المسافة الجوية بين دمشق والقاهرة الستمائة كيلومتر، مقابل ما يقارب الثمانمائة كيلومتر تقريباً بين دمشق وبغداد.
ويشكل العراق واحداً من أهم الحواضر العربية، وهو مهد الحضارة الإنسانية، ولقد انتبه بناة الدولة العربية الإسلامية الأوائل إلى أهمية العراق الجيوسياسية حيث قام الخليفة علي بن أبي طالب بنقل مقر الخلافة، أو عاصمة الحكم إلى الكوفة، وتعني هذه الخطوة إحداث قلب جديد للدولة، يكون قريباً من المناطق حديثة العهد بالانضمام إليها، وذلك بغية تسهيل الإشراف عليها وتوطيد السلطة فيها، ففي العاصمة تتركز القوى العسكرية والاقتصادية، ويعني ذلك سهولة تحريكها عند الضرورة كما أن عملية نقل مقر الخلافة إلى العراق جعل قلب الدولة الأول أو الأساسي ومهبط الوحي عمقاً استراتيجياً يمكن العودة إليه عند الضرورة، فالدول ثنائية النوى يمكن أن تكون أقدر على الدفاع عن نفسها عند الضرورات العسكرية والأمنية، كما كان حال موسكو وسان بطرسبورغ “لينيغراد” في الحرب العالمية الثانية وفي حروب نابليون، ومثل هذا الواقع الذي يعني وجود أكثر من قلب للدولة هو أمر ضروري للدول ذات المساحات البرية الواسعة، إذ يعمل كل قلب كعمق استراتيجي للآخر، وقد تكشفت الأهمية الإستراتيجية لهذا الواقع عند مواجهة الأمة العربية أزمنة الشدة في العصور الوسطى أثناء الغزو المغولي والفرنجي.
إن تكامل سورية والعراق ومصر له بعد روحي، فطبائع الناس القاطنين في البلدان الثلاثة تتكامل وأنسابهم أيضاً، فجنود مصر هم خير جند الأرض، وأكثرهم طاعة وانضباطاً، وهذه الصفة تصبح في بعض الأحوال ضرورية، بل مصيرية وشديدة الأهمية في أوقات الشدة، وتتكامل هذه الطباع مع طباع أهل العراق الأبية الشرسة في وجه المعتدي، طباع الحمية العربية، والحنونة لأبعد حد للقريب، وبين الاثنين توجد الطباع الشامية التي تعرف كيف تحافظ على مبادئها الأساسية مع الكثير من البراغماتية، طباع دمشق التي تنتصر دوماً بلا حرب، وإن اضطرت للحرب فهي تعرف كيف ومتى ولماذا تخوضها.
يضاف إلى هذا البعد الروحي عنصر آخر هو العنصر الوجداني، وهو الذي دفع بالسوريين للقتال مع المصريين خلال العدوان الثلاثي عام 1956، وهو العامل ذاته الذي حرك تظاهرات غاضبة في المدن العراقية عام 1956 تأييداً لجمال عبد الناصر وضد نوري السعيد وحلف بغداد، كما أن العامل الوجداني كان هو الدافع لدى الجماهير والجيش السوري للوحدة مع مصر بلا شروط مطلع شباط 1958، اللهم سوى تحقيق الوحدة، كما كان العامل الوجداني هو الذي حرك التظاهرات في القاهرة ضد الغزو الأمريكي ـ الصهيوني للعراق عام 2003، وإن إحياء محور دمشق القاهرة ضروري للأمن القومي العربي بلا شك، ولكن عندما يتم ضم بغداد له فإن النتيجة المنطقية ستكون بعث العملاق العربي من جديد، ونجد في التاريخ أمثلة كثيرة، دولة الأمويين، العباسيين، وفي مرحلة التشرذم المرير استطاعت العواصم الثلاث تغيير مجرى الأحداث بصورة حاسمة كما حصل في الحرب ضد الفرنجة، حيث أصبحت هزيمتهم ممكنة بقيادة صلاح الدين الذي جاء من الأراضي العراقية، وتوجه لمصر ليستقر به المطاف بدمشق، وتتشابه هذه المسيرة مع تلك التي سار فيها الظاهر بيبرس عندما قهر المغول، وفي الوقت الراهن فإن تقارب وجهات نظر سورية ومصر الجيوسياسية أمر مفيد لكليهما، ناهيك عن أن حقيقة عودة الروح الواحدة إلى العلاقات بين البلدين هي مسألة وقت، ولأن هذه العودة هي قدرٌ للجغرافيا والتاريخ والروح والوجدان والمنطق.
كاتب وباحث من سورية