الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

..وليأت من يأتي!

سلوى عباس

أيامها تمضي بطيئة مملة لاشيء يطرأ على مسارها العادي.. لاشيء يخربط لعبتها.. شمس تشرق.. خطوات تمضي.. وجوه تتعب.. وهي ما إن يرحل الضوء حتى تهرع إلى وسادتها تدفن في أحلام رقادها الهموم والضجر.. أيامها لم تكن تختلف، كانت كأغنية حزينة تتسلل من بين الدقائق وترافق خطاها المحدودة المسار.. المحدودة المكان.. تعيش ألماً وحزناً لا يفارقانها، يعيشان معها في كل لحظة تمر.. كبر الحزن.. صارت مساحاته شاسعة.. صار حالة دائمة تراود قلبها وعبثاً تقاوم.. عبثاً تستعير من سائر الأحاسيس نبضاً.. صار هو الأقوى.. هو القدر ينتصب حاجزاً أسود على طريقها يعترض مسار كل زهرة تنبت في بستان أيامها يسرق منها الوهج والعبير.. إنه أقوى من المنطق وأشد من أن تطاله يد الحنان.

قررت الرحيل.. سفر ستجربه وحدها متجاوزة حدوده.. متجاوزة فرحها بلقائه.. متجاوزة قلقها لنواه.. متجاوزة وجدها.. راحلة.. لكن رحيلها سيكون في أعماقها ومع الغربة.. وحدها ستغادر مرساتها وليأت من يأتي بعدها.. الريح مواتية والموج يناديها وقبطانها يتخطى المرفأ، والزورق ينسل على مهل وسط المد وسط الجزر ويقول لها لا تنتظري رحالاً أفلت من قيدك يوماً ليعود إلى القيد الأكبر..

المرسى الواحد لا يجدي مادام بلا جهد ولا سبب.. وتنقطع أسباب الود.. فليقترب المركب في رحلته الأخرى.. هذا آخر ما تنتظره أشرعتها.. كانت قد بنت بيتها لتستقبله فيه ويعيشا العمر كعصافير الحب بين همس الشجر وعطر الزهر.. لكن فجأة سقط الحلم وزلزلت الأرض ولم يبق إلا الغضب المخنوق.. فسفينتها لم تعرف شط الأمان وهي كما بحار طائش تتقاذفها الأمواج.. إنه البحر وعيناه.. بدايات لعوالم لن تنتهي ونهايات لأساطير لن تعرف لحظة البدء.. جبل قاس يدمر من يصعد إليه.. جرم كافر يحرق كل من يقترب منه.. احتارت ماذا تسميه.. أتسميه البداية.. أتسميه  النهاية.. أتسميه قلبها الذي لا يعرف الاستقرار.. أتسميه نفسها التي لم تذق طعم الأمان.. إنه العلقم يلوكها ويلوك حياتها ويدخلها عالم المتاهة.. زهرة بلا لون ولا رائحة.. موسيقا داوية تهز معالم السكينة والاطمئنان.. قمر لا يعرف الضياء.. شمس لا تحمل الدفء.. مياه لا تروي العطش.. فهي لا تزال كبحار طائش لم تمنحه الحياة من تجربتها إلا القليل الذي لا يروي ظمأ المتعطش إلى عالم المعرفة.. عالم الحب والسعادة..

دربها طويل وأحزانها حروف تخطها دماؤها.. ترسمها شرايينها.. تبعثرها أقلامها.. تمزقها صحائفها.. أحزانها ألم لا ينتهي وجرح لا يزول وشمعة لا تنطفىء وقلب لا يستكين دائم الحزن والأسى.. أما المنام فهو دوامة من الأحلام والكوابيس المزعجة تنتزع منها راحة البال وتجيش في صدرها ذكريات مؤلمة لجراح تحاول أن تكفنها.. فقد بدا كل شيء قبل اليوم أشد اتقاداً وأكثر ازدهاراً، وكانت الشمس مشرقة أبداً حتى في الليل، تقبع في ذاتها  الكئيبة وتتسلل إلى نفسها تنشر فيها الأمل بغد جميل يحمل في طياته السعادة والتفاؤل.. وتتساءل أين هو هذا الأمل وأين أنا منه؟

يبدو أننا أصبحنا نتلذذ بالألم بحكم الطبيعة الإنسانية التي فطرتنا على التعامل مع الحزن، وهو أحد المكونات الرئيسة لحياتنا بحميمية يبدو معها الفرح زائراً ثقيل الظل فيما لو فكر يوماً بالتفرج علينا في محطة من محطاته الخاطئة.