اقتصادصحيفة البعث

الإنفاق في الابتكار.. والعكس صحيح؟!

 

حينما تُستحضر كلمة “ابتكار” تتبادر إلى أذهاننا صور الإبداع والاختراع ورواد المشاريع الناشئة المفعمين بالحماس، وبالتوازي صور الشركات العالمية التي تعادل ميزانياتها للبحث والتطوير اقتصاديات دول صغيرة، لكن نادراً ما تتبادر إلى مخيلتنا صورة -غالباً ما تكون فاعلة– حكومات تسعى إلى تسخير الابتكار كوسيلة لتعزيز مكانة بلادها في اقتصاد المعرفة الجديد، اقتصاد المستقبل، ولاسيما في منطقتنا العربية.
وعلى الرغم من أن “الابتكار” الذي تقوده وتدعمه الحكومات ليس جديداً، بل يعود لستينيات وسبعينيات القرن الماضي، كمثل ما تمّ في دول أوربية وبعدها آسيوية، إلا أن هناك حكومات لا تزال غائبة أو تحبوا حبواً نحو ذلك، أي تراوح بالمرحلة ما قبل “المراهقة” في اقتصاد المعرفة.
ولأن الابتكار يأتي ضمن أولويات العديد من الدول، وجدنا أن سنغافورة مثلاً ومن خلال مبادرة “الأمة الذكية” استطاعت التألق بين دول آسيا على مؤشر الابتكار العالمي (2017 GII)، والسؤال العبء الذي مازلنا ننوء به: أين نحن من “الابتكار” القادر على تحقيق النهضة الاقتصادية والاجتماعية التي نأمل؟!.
عربياً وتحت عنوان “دور الطلب على الابتكار: براهين من اقتصاد غني بالمصادر”، قام باحثان غربيان بدراسة ما تنفقه إحدى الدول الخليجية ذات الإنفاق العالي على المشتريات والمشاريع العامة، بهدف بيان كمّ وأثر ما تنفقه من أموال على تحفيز الابتكار، خاصة بين الشركات المحلية الصغيرة الحجم والمتوسطة، فكانت النتيجة أنه لم يتضمن لغاية الآن أية معايير وأية عناصر مدفوعة بالابتكار.
وحين سؤال نحو 470 شركة في تلك الدولة حول حركة تدفق المعلومات، وإذا ما جاءت ابتكاراتهم تلبية لمتطلبات القطاع العام أو الخاص، وأن العقود الحكومية والعطاءات تضمنت معايير واشتراطات “ابتكارية” -ضعوا تحت العقود والعطاءات عشرة خطوط- تبيّن أن لا شيء يذكر من ذلك!.
ما سبق يعني أن على المورّدين والمستثمرين تقديم سعر منخفض في معظم الأحيان لضمان فرصة الفوز بالعقد، وهذا يعدّ بمنزلة الفرصة الضائعة، بينما كان يمكن لسياسات المشتريات العامة أو الإنفاق العام لو أخذا قضية الابتكار بعين الاعتبار، الاستفادة من تلك الأموال لتمكين تلك الدولة من التحوّل إلى اقتصاد المعرفة بشكل أسرع.
وعليه خلصت الدراسة إلى أن على الحكومة حين تطبيقها لسياسة المشتريات العامة أو الإنفاق العام مراعاة أمرين لا ثالث لهما، أولاً: أن تلزم تلك السياسات أي مزوّد خدمة أو منتج بالاستعانة بالموارد المحلية الموجودة، وهو مفهوم يعرف بالمحتوى المحلي، وفي هذا الجانب يُشار إلى النرويج كحالة نموذجية للدراسة، فعندما انتعشت شركات الأوفشور (الشركات العاملة خارج أراضيها) في السبعينيات، طوّرت النرويج قطاع خدمات الطاقة الضخم محلياً، من خلال مطالبة الحكومة وشركات النفط الدولية بإعطاء أفضلية للمنتجات والخدمات النرويجية (بشرط أن تكون المنافسة قائمة على أساس معايير معينة).
وثانياً: أن تتضمن تلك السياسات اشتراطات لتوطين الابتكار من خلال وضع مواصفات تكنولوجية عالية لمشاريعها، وبذلك تستطيع تحفيز المورّدين والمستثمرين المحليين والدوليين على تطوير تكنولوجيات جديدة، عبر جعلها –أي التكنولوجيات المتطورة- شرطاً أساسياً للحصول على عقود حكومية مربحة، الأمر الذي يساعد الشركات المتردّدة استثمارياً للخوض بمجال البحث والتطوير -خاصة الصغيرة والمتوسطة منها- ما يساعدها بالتالي على اتخاذ القرار المناسب.
طرحنا ما طرحناه لنقول: إن ما خلص إليه الباحثان نحن معنيون به ولاسيما في مرحلة إعادة الإعمار، خاصة وأننا لا نملك مثل تلك الأبحاث حول متطلبات الاقتصاديات المستقبلية التي ستجبُّ ما قبلها عاجلاً أم آجلاً، وبالتالي لا نملك المعايير والمحددات الموصلة لتوطين ذلك في نهجنا الاقتصادي والاستثماري، رغم أن إنفاقنا العام ليس بقليل مطلقاً لكنه لا يزال كلاسيكياً وترقيعياً وتعويضياً بعيداً عن التطور والتطوير اللذين لن يرحما تخلفنا في إدارة مواردنا وأموالنا المتوقع ضخامتها أكثر مما كانت عليه.
كما نقول إننا بحاجة لحكومة قادرة على الترجمة الفاعلة لإدارة هذا الملف المصيري لاقتصادنا الوطني، أي ربط الإنفاق العام والاستثمار بالابتكار، وخاصة في المقبل من مرحلة إعادة الإعمار لسورية، التي يجب ألّا يكون فيها موطئ قدم لما أكل عليه الدهر وشرب، فالبناء الجديد لسورية لا بد أن يستند إلى اقتصاد المعرفة وغير ذلك لا شك أنه سيكون إعادة بناء ما تدمّر فقط!.
قسيم دحدل
Qassim1965@gmail.com