دراساتصحيفة البعث

خطـــة الشــــيطان والــــدور المســــند للإخــــوان

عبد الرحمن غنيم

كاتب وباحث من فلسطين

هناك فارق كبير بين القول بأن ظاهرة ما أسمي بـ”الربيع العربي” كانت عفوية أوجدتها الظروف المحلية في البلدان التي شهدت هذه الظاهرة، والقول: إنها مصنّعة من أطراف خارجية.
وقبل أن نخوض في مناقشة هذه النقطة دعونا نسلم مسبقاً بأنه ما من أحد ممّن انخرطوا في مؤامرة “الربيع العربي” لديه الاستعداد للاعتراف بأنه كان مبرمجاً مسبقاً من الخارج, أي أنه كان عميلاً, ولم يكن ثائراً بدوافع محلية كما يدعي. ولعل الاستثناء الوحيد في الاعتراف بالدور تمثل في تصريحات أو اعترافات حمد بن جاسم آل ثاني باعتباره شريكاً في صنع الحدث, وباعتبار أنه شارك في التآمر على الآخرين، وعلى أمل أن تحصل مشيخة قطر من وراء ذلك على ما تتمناه, وهو أن تتحول من مشيخة إلى مملكة، ولو كانت قطر هي المستهدفة, ولو كانت شريكاً في الاستهداف, لما ذهب إلى مثل هذا الاعتراف. إن ما دفعنا إلى استحضار هذه المسألة ومناقشتها يتمثل في أقوال المتمرّد الليبي محمود جبريل التي أدلى بها لقناة الميادين، ومحمود جبريل له قصته, والأهم فيها أنه كان رئيساً لوزراء ليبيا حين انخرط في التمرد على نظام القذافي، وهناك عدة نقاط أوردها تستحق الوقوف عندها بتمعن، وأبرز هذه النقاط هي التالية:
الأولى: إن الخطة المتعلقة بـ”الربيع العربي” كان يفترض أن يتم تنفيذها – في ليبيا على الأقل – عام 2012 وليس عام 2011!.
الثانية: إن قيادة التنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين كانت طرفاً في الخطة منذ البداية, وأسند لها من قبل الأمريكيين تنفيذ دور رئيس في الخطة.
الثالثة: إن تدخّل الناتو وأتباعه في ليبيا بعد شهر من بدء التمرد -حسب قوله- لم يكن متفقاً عليه بين الناتو والمتمردين, وأن دخول الناتو جاء لتصفية حساباته الخاصة مع القذافي مستغلاً الوضع بشكل مستقل.
الرابعة: إن زعماء دول عديدة, ومنهم الرئيس الفرنسي ساركوزي, ساهموا بشكل مباشر في التعامل مع الأحداث ومتابعتها.
يدّعي محمود جبريل أن التحرك الذي حدث في تونس ومصر مطلع العام 2011 جاء مفاجئاً, ودفع بالأطراف المتمردة في ليبيا إلى التحرك المبكر في عام 2011 بدل الانتظار حتى العام 2012 وسواء صحّ هذا الادّعاء أو لم يصح فإنه لا ينفي الحقيقة الواضحة, وهي أنه كانت هناك خطة مبيتة للتمرد أو للحراك، وتكفي النقاط التي أوردناها من خلال حديثه للدلالة على صحة هذا الافتراض، وأما مسألة التوقيت فإنها لا تثبت عفوية الحراك كما أراد أن يصوّر الأمر بل تثبت عكس ذلك.
لنتذكر أولاً أن خطة بندر فيلتمان, وهي خطة تنفيذية لخطة شيطانية أكبر, كما أنها خطة جزئية من الخطة الشيطانية الأكبر, وكانت قد وضعت عام 2008, وكانت تستهدف سورية بشكل محدّد، وهنا لا بدّ من الافتراض بوجود خطط موازية استهدفت مصر وتونس وليبيا واليمن.
وإن مجرّد القول بأن موعد التنفيذ بالنسبة لليبيا – على الأقل – كان عام 2012, لا يعني أولاً أن هذا الموعد يشمل جميع الأقطار المستهدفة, ولا يعني ثانياً أنه موعد دقيق وأكيد, وأنه يدل على حراك شعبي عفوي سبق الحراك المخطط له من الخارج.
نستطيع أن نفترض ببساطة أنه إذا كان هناك من سرٍّ يحتفظ به صاحب المخطط الأساسي ويحافظ عليه بصرامة في مثل هذه المؤامرات الكبيرة التي ترقى إلى مستوى الحروب فإنه يتمثل في “ساعة الصفر”، فصاحب الخطة يهمه أولاً تعبئة القوى والعناصر المنخرطة في تنفيذ المخطط ووضعها في حالة الجاهزية للشروع في التنفيذ متى صدر الأمر, ويهمه ثانياً أن يبقى موعد التنفيذ مرناً من جهة وسرّياً كل السريّة من جهة ثانية, ذلك أنه إذا أفشى سرّ التوقيت مسبقاً لمن يقوم بتشغيلهم لحساب مخططه لن يأمن بوح أحدهم بهذا السرّ, ولن يأمن عندئذ إمكانية إحباط المخطط قبل الشروع بتنفيذه.
هنا قد يتساءل البعض: ومن أين جاء محمود جبريل بفكرة أن العام 2012 كان هو العام المحدد للتنفيذ؟، ونقول: إن ما قاله قد يكون صحيحاً على حدّ علمه كطرف منخرط في المخطط بشكل مسبق، لكننا نفترض أن أصحاب المخطط الشيطاني أعطوه توقيتاً غير التوقيت المرسوم, أو أن هذا التوقيت كان يمثل ذروة المخطط وليس نقطة البداية في تنفيذه، وسنرى بعد قليل أن هذه الذروة كانت تستهدف سورية، فالمخطط اتخذ تنفيذه عملياً شكل الكرة المتدحرجة التي تهيّئ كل مرحلة من مراحل دحرجتها للمرحلة التالية، ونستطيع هنا أن نميّز بين نموذجين للأداء: أولهما وهو الأسهل اعتمد على منطق الإزاحة, وثانيهما وهو الأصعب اعتمد على منطق التغلب على الاستعصاء.
إن ما حدث في تونس ومصر خضع عملياً لمنطق الإزاحة، فالرئيسان في مصر وتونس كانا أساساً مواليين لواشنطن, وكان آخر ما يخطر ببالهما أن تخطط واشنطن لإزاحتهما، بل وكانا يعتقدان أنها ستخف لمساعدتهما في حالة وجود تمرد عليهما، لكن سلوك واشنطن جاء مفاجئاً لهما، وقد رأينا كيف دخل البيت الأبيض علناً وبكل ثقله لإقناعهما بالتنحّي تلبية لرغبة الجماهير المحتجة على نظاميهما, فكان تنحيهما استجابة للرغبة الأمريكية ممّا بدا خضوعاً للإرادة الشعبية.
لقد اصطنع الأمريكي “الهلّيلة” ثم استغلها متدخلاً لإعادة ترتيب الأوضاع وفق مشيئته, وأنجز ذلك دون أن يواجه ممانعة أو استعصاءً، وكانت الغاية من هذه المسرحية في القطرين إيجاد المناخ الملائم الذي يهيّئ لاستهداف ليبيا وسورية, حيث افترض الأمريكي حدوث الاستعصاء.
لقد كان الاعتماد على تصنيع الظاهرة الجماهيرية على الطريقة الأمريكية في كل من مصر وتونس وحتى في اليمن ممكناً، لكنه لم يكن ممكناً لا في ليبيا ولا في سورية، وكان النموذج الليبي صورة للمؤامرة الكاملة المعدّة في الظلام، وبدلاً من الظاهرة الجماهيرية, بل وفي مواجهة الإرادة الشعبية, كانت هناك تهيئة مسبقة لأمرين:
الأول: انطلاق ميليشيات مسلحة جرى إعدادها مسبقاً لتستهدف كل منها إحدى المدن الرئيسية في ليبيا، والثاني: الاعتماد على عناصر منشقة من داخل النظام الليبي مسؤولين ودبلوماسيين, بحيث فقد القذافي عملياً السيطرة على ممثليه في المنظمات العربية والدولية, مثلما فقد السيطرة على العديد من السفارات.
وكلا الظاهرتين تؤكدان التآمر الخارجي المسبق, مثلما تؤكدان أن مسألة التوقيت لم تجئ عفوية طالما أن عناصر التنفيذ كانت جاهزة للإقلاع في اللحظة الملائمة.
إن حدوث التدخل الخارجي للناتو بعد ذلك بشهر لا يعني أن هذا التدخل جاء منفصلاً عن التمرد ولتصفية حسابات الناتو مع القذافي كما ادّعى جبريل, أو لتصفية حسابات بعض دول مجلس التعاون الخليجي التي شاركت أيضاً في التدخل, وإنما جاء هذا التدخل لمساندة التمرد بعد إحساس مدبّريه بأن العناصر المحلية لم تتمكن من الوصول إلى غايتها, وأن إمكانية قمع التمرد قائمة ما لم يحدث التدخل الخارجي بأشكاله المتعددة, ومنها إلى جانب الحظر الجوي والقصف الجوّي إدخال تشكيلات إرهابية من القاعدة لتنضم إلى المتمردين.
فالتدخل الخارجي إذن كان عنصراً من عناصر الخطة ولم يأت بشكل عفوي أو مستقل، وهذا التدخل, وما واكبه من تضليل, كان حاسماً في تمكين المتمردين من الوصول إلى الغاية المتمثلة في الإجهاز على القذافي ونظامه بحلول شهر تموز من العام 2011.
إن النقطة الجوهرية, التي يجب أن ننتبه إليها في هذا السياق, هي أن جماعة الإخوان المسلمين بالذات هي التي لعبت الدور المحوري والأساسي في تنفيذ مؤامرة “الربيع العربي” أو بالأحرى “مؤامرة الشرق الأوسط الجديد” وقد لعبت الدور المطلوب منها سواء في مصر أو تونس أو ليبيا أو سورية.
ولولا هذه الجماعة بالذات لكان من المستحيل أن ينجح أصحاب المخطط في إثارة “الظاهرة الجماهيرية” التي استثمرت في التنفيذ أو في تشكيل ميليشيات مسلحة سرّيّة بغرض استثمارها في اللحظة الملائمة, أو لتكون نواة لاستقطاب مسلحين آخرين. فهي عملياً العمود الفقري الذي استندت إليه المؤامرة ولا زالت تستند عليه حتى الآن.
وعلينا أن نلاحظ هنا بأن دخول التنظيمات الإرهابية التكفيرية على الخط, وتنامي هذه التنظيمات حتى على حساب جماعة الإخوان المسلمين نفسها, ما كان ليتم لولا البيئة القتنوية التي صنعتها جماعة الإخوان.
بوسعنا أن نفترض بالطبع أن جماعة الإخوان لم يكن من مصلحتها أساساً نمو التنظيمات الإرهابية التكفيرية المرتبطة بالقاعدة لتكون منافساً لها على الأرض, وإن وجدت أن من مصلحتها في حالات تعذر قدرتها على تحقيق أهدافها الاستعانة بتلك التنظيمات والتحالف معها, وهو الأمر الحاصل عملياً.
وهذه الثنائية أو التعددية في بؤر الإرهاب هي دليل إضافي على وجود المخطط الشيطاني الذي عبّأ في خدمته هذه الأطراف وغيرها، فأصحاب المخطط الشيطاني هم السادة الفعليون لكل هذه القوى الإسلاموية المتنافسة والمتحالفة وفي مقدمتها جماعة الإخوان.
إن قيام جماعة الإخوان بالذات بأداء دور الموجة الأولى في مخطط إثارة الفوضى في المنطقة لا يعني أنهم هم المتحكمون بهذه الموجة. فالولايات المتحدة وأتباعها بمختلف مشاربهم ركبوا الموجة منذ البداية, ثم إنهم أوجدوا روافد إضافية تضخم حجم هذه الموجة.
وفي لحظة ما باتت هذه الروافد الإضافية أكبر وأقوى من جماعة الإخوان، وعلينا هنا أن ننتبه إلى أنه لولا ركوب الولايات المتحدة وأتباعها للموجة, ولولا قيامهم برفدها بتشكيلات عميلة أخرى جرت تنميتها على نحو سرطاني, لكانت الموجة الإخوانية التي استثمرت في البداية قد انتهت إلى هزيمة محققة, ولكان قد جرى إخراجها كلياً من الصراع بشكل مبكر، وهذا ما يفسر استمرار التعاون بين جماعة الإخوان وبين التنظيمات الإرهابية المنافسة التي جاء بها الأمريكان، فهذه التنظيمات هي التي حالت عملياً دون انقطاع أنفاس الإخوان في اللعب!.
والواقع أن هناك فكرة جوهرية يمكن استخلاصها مما قاله محمود جبريل, وهي أن العام 2012 كان عام الحسم بالنسبة للخطة, ولكن ليس في ليبيا – كما افترض – وإنما في سورية، فكل من يلقي نظرة على تطور الأحداث منذ بداية العام 2011 وحتى أوائل العام 2012 لا بد وأن يصل إلى الاستنتاج القائل بأنه جرى استثمار “الربيع العربي” عام 2011 في خلق الظروف التي تسهم بمجموعها في خدمة الخطة الرامية إلى الإجهاز على سورية ببلوغ ذروتها عام 2012.
وإذا وضعنا جانباً دور جماعة الإخوان المسلمين المركزي في التحضير والإثارة بهدف خلق أجواء للفتنة, أو بهدف تشكيل ميليشيات مسلحة تابعة لهم, فإن هناك أمران جوهريان يجب وضعهما في الاعتبار كمؤشرين:
الأول: تصفية أسامة بن لادن في مطلع أيار عام 2011 للتخلص من ممانعته في زج القاعدة في استهداف سورية، وهذا يعني أن فكرة زج القاعدة في سورية بدأت منذ ذلك الحين, وأن تنفيذها تطلب بعض الوقت.
والثاني: بدء تسلل العناصر الإرهابية القادمة من ليبيا بقيادة عبد الحكيم بلحاج بدءاً من تشرين الأول عام 2011 ولا شك أن هناك عناصر أخرى ومن أماكن أخرى بدأت بالتسلل في ذلك الحين، وقد لعب رئيس وزراء لبنان في حينه والذي تقاضى مائة مليون دولار لقاء دوره وتابعه عقاب صقر الذي تقاضى عشرة ملايين، دوراً في تأمين تسلل الإرهابيين عبر لبنان وتركيا وتسليحهم.
إن النشاطات الإرهابية لهذه العناصر وحاضنتها المحلية من جماعة الإخوان المسلمين كانت المقدمة التي أدت إلى خلق ظروف معينة أسهمت في إيجاد المعسكرات الأولى لتدريب إرهابيين سوريين في معسكرات أقيمت لهذا الغرض في كل من تركيا والأردن، وذلك في أوائل العام 2012 وكان يجري في ذلك الحين استقطاب مرتزقة يتم إغواؤهم بكل السبل للالتحاق بتلك المعسكرات، وكان اللجوء إلى العسكرة آنذاك كاللجوء إلى إحضار إرهابيين مرتزقة من خارج القطر دليلاً قاطعاً على فشل المخطط الأساسي القائم على إثارة الفتنة بين مكونات الشعب السوري وتقويض النظام السياسي من خلال ذلك.
إن فشل الخطة في مرحلة ما، لا يعني أنها لم توضع موضع التنفيذ، لكن العملية أخذت شكل الأمواج المتعاقبة, فإذا فشلت الموجة الأولى جاءت موجة ثانية استغلت بقايا الموجة الأولى وزادت عليها, وهكذا استمرت المحاولات دون انقطاع، وقد تحطمت هذه الأمواج تباعاً على صخرة الصمود السوري وفي ضوء المساندة التي قدّمها الأصدقاء في الحرب على الإرهاب.
لعل انتباه الناس في هذه الأيام ينصبُّ على ما آل إليه تنظيم داعش في المحافظات الشرقية والوسطى, وحجم الهزيمة التي لحقت بهذا التنظيم، كما أن انتباه الناس يتركز الآن على الإنجازات التي حققها ويحققها الجيش السوري والقوات الرديفة في مواجهة جبهة النصرة وشركائها في محافظات حلب وحماة وإدلب والغوطة الشرقية.
ووسط هذه التطورات نجد أردوغان وقد شرع في مهاجمة عفرين مستعيناً بالميليشيات الإرهابية التي يطلق عليها تسمية “درع الفرات”, وهي ترتبط بنظامه مثلما ترتبط أو يرتبط بعضها بجماعة الإخوان, وكأنه لا يريد فقط إنقاذ ما تبقى من ميليشيا الإخوان, ولكن أيضاً بسط الحماية التركية عليهم, ولو في نطاق منطقة جغرافية معينة في الشمال.
وقد رأينا كيف خرج تنظيم الإخوان ليعلن تأييده لما أسماها أردوغان بعملية “غصن الزيتون” والتي تستهدف الأرض والإنسان في الشمال السوري, وهو تأييد مشفوع عملياً بالمساهمة في تنفيذ تلك العملية.
لكن سؤالاً كبيراً وهاماً يطرح نفسه في هذه الحالة ويستوجب الوقوف عنده بتمعن وهو: إذا كانت قيادة التنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين قد انخرطت بشكل مسبق في مؤامرة “الربيع العربي”, وقبل أن يبدأ تنفيذها بسنين, وإذا كانت الجماعة قد نجحت من خلال الحراك في مصر وتونس وليبيا في الصعود إلى السلطة والإمساك بها كلياً أو جزئياً, وإذا كانت هذه الجماعة قد انخرطت في المؤامرة على سورية بكل إمكاناتها, وشكلت محور عناصر التآمر, فما هو السر الكامن وراء إسقاط سلطتها في مصر, وتراجع قوتها في تونس, وفشلها بالانفراد في حكم ليبيا, ووقوفها في موقع متأخر ضمن طابور الإرهابيين في سورية حيث تقدمتها داعش وجبهة النصرة؟. وكيف قبلت لنفسها أن تتحول إلى أداة في يد التحالف السعودي في عدوانه على اليمن رغم الاضطهاد الذي ألحقه برموزها في السعودية؟.
هل نعيد تراجع الإخوان المسلمين, أو حتى اندحارهم, إلى الرفض الشعبي لهم أم أن هناك سبباً آخر؟.
لنسلم بأن جزءاً من تراجعهم يعود إلى الرفض الشعبي لهم, وهذا اتضح في مصر مثلما اتضح في تونس وليبيا مثلما اتضح في سورية، ولنسلم أيضاً بأن من يمسك بزمامهم في واشنطن، له من وراء تحجيمهم غاية, وله من وراء رعاية تنظيمات إرهابية تنافسهم غاية أخرى، فما يتطلبه المخطط الشيطاني الذي تتولى أمريكا إدارة تنفيذه, وتسخر كل عملائها لتنفيذه, هو تشظية الوطن العربي وتمكين الصهاينة منه، وهذه التشظية تفترض من بين ما تفترض عدم تمكين حزب ما سواء كان قومياً أو إسلامياً أو أممياً من توحيد المنطقة, بل وحتى القطر الواحد, تحت قيادته، وهذا ما يفسّر تعدّد التنظيمات الإرهابية وتناسلها، وأنه بمقدار هذا التعدد يكون الانفلاش على الأرض وتعم الفوضى وتنفذ ليس فقط مشاريع التقسيم وإعادة رسم الخرائط, ولكن أيضاً مشاريع التوسع الصهيوني وتمكين إسرائيل من تحقيق حلمها في التوسع بين الفرات والنيل.
لقد تصرّفت جماعة الإخوان المسلمين على أساس الاعتقاد القائل بأنها القوة المنظمة التي من خلال انخراطها في تنفيذ المخطط الأميركي سيكون بوسعها الاستفادة من قانون الإزاحة لحسابها, أي الإجهاز على السلطة القائمة بغض النظر عن الجهات التي تسهم في هذا الإجهاز, حتى إذا ما وقع الفراغ في السلطة كان بوسعها أن تقفز للسيطرة عليها دون أن يعترض مشغلوها أو من تتصور أنهم حلفاؤها على ذلك, خاصة وأنها تصوّرت أنه لا يوجد أساساً بديل منظم يمكن أن ينافسها على ملء الفراغ.
لكن ما حدث عملياً هو أن أصحاب المخطط الشيطاني كانوا قد وضعوا ضمن حساباتهم تشكيل قوى أكثر شراسة وأشدّ حماسة مثل داعش والنصرة ليجد الإخوان المسلمون أنفسهم أخيراً في مؤخرة الحراك بدل أن يكونوا في مقدمته, أو لنقل إنهم زحزحوا من موضعهم في المقدمة في البداية ليجدوا أنفسهم في ذيله في النهاية.
ومع ذلك, فإن رهان الإخوان على تركيا وقيام تركيا بتشكيل قوات موالية لها أشعر هؤلاء بأنه حتى وإن لم يتمكنوا من كامل الجغرافيا فإنهم يستطيعون اقتطاع جزء منها.
وبافتراض أن هذا قد تحقق بالفعل, فإنه لا يعني بأنهم قد فازوا بما سعوا إليه, وإنما يعني فقط أنهم باتوا جزءاً صغيراً من اللعبة الكبيرة التي يلعبها أصحاب المخطط الشيطاني, وأنهم باتوا مرتهنين لهذا المخطط، ومن المؤكد أن أصحاب هذا المخطط ليسوا معنيين بإزاحة جماعة الإخوان المسلمين من المشهد بشكل كلي, وإنما هم معنيون باستثمارها, سواء تهيّأ لها أن تمسك بجزء من السلطة أو لم يتهيّأ.
وهذا ما يحدث فعلاً مع جماعة الإخوان في مصر وليبيا, حيث تحولت هذه الجماعة إلى طرف في الصراع, وانتقلت في مصر من حزب يطمح إلى الانفراد بالإمساك بالسلطة إلى حزب يمارس الإرهاب ضد السلطة حتى ولو على قاعدة الانتقام!.
إن المسألة الأهم في هذا السياق هي أن الأطراف المتورطة في الصراع لم تشأ في أي لحظة من اللحظات, قبل بدء الصراع, وخلال إدارة الصراع, أن تسأل نفسها السؤال البسيط التالي: لحساب مَن تدير أميركا هذا الصراع؟. وهل تديره لحسابها؟ أم لحساب اليهود الصهاينة؟ أم لحساب القوى الحزبية المحلية المتعاونة معها كما هو حال جماعة الإخوان المسلمين؟ أم لحساب العصابات الإرهابية التكفيرية مثل داعش والنصرة؟.
قد يقال: إنه مهما كانت الحسابات من وراء إدارة الصراع, فإنه لا بد من تقاطع بين مصالح جميع الأطراف المتحالفة والمستثمرة في هذا الصراع ولو بنسب متفاوتة، فأميركا تحتاج في نهاية المطاف إلى تلك الأطراف التي عملت في خدمتها ولا حاجة لها لاستبعادها لصالح أطراف لم تقم على خدمة مخططها أو قاومت هذا المخطط.
وهذا كلام صحيح منطقياً, ولكنه يخفي وجهاً آخر للمسألة لا يجوز إغفاله. وهذا الوجه الآخر للمسألة يتضح جلياً بمجرد طرح الأسئلة على النحو التالي:
الأول: ما هي المعطيات التي تلبّي بشكل كلي المطامع والحسابات الأمريكية، والثاني: ما هي المعطيات التي تلبّي بشكل كلي المطامع والحسابات الصهيونية، والثالث: ما هي جوائز الترضية وحدود السلطة والسلطان التي يمكن تركها للأطراف السياسية المحلية والإقليمية المنهمكة في تنفيذ المخطط الشيطاني، والرابع: ما هي جوائز الترضية التي يمكن تقديمها للعصابات الإرهابية التكفيرية المشكلة في غالبيـتها من الغرباء ليكون بوسع المشغّل الأميركي استخدام هذه العصابات في أماكن أخرى؟.
حين ننظر إلى المسألة في ضوء هذه الأسئلة, أو لنقل على مائدة اقتسام التركة الافتراضية, سنجد أنفسنا أمام المعطى التالي، وهو أن أهم ما يعني الولايات المتحدة من زاوية مصالحها الإستراتيجية في المنطقة يتمثل بالأهداف التالية:
الأول: التخلص من الأنظمة المعاكسة للنفوذ الأميركي في المنطقة, وبشكل خاص في سورية وإيران.
الثاني: تأمين كامل المطامع الصهيونية في المنطقة باعتبار أن ذلك جزء لا يتجزأ من المصلحة الأمريكية من جهة, وباعتبار أن الصهاينة هم الطرف الأكثر موثوقية لخدمة هذه المصالح من جهة ثانية, وباعتبار أن ذلك فيه ضمانة لأمن إسرائيل الذي تلتزم الولايات المتحدة بتحقيقه من جهة ثالثة.
الثالث: بعد أن ينال الصهيوني حصته من التركة بحسابات الجغرافيا السياسية, يأتي دور الأطراف المحلية العميلة لأميركا لتنال حصتها, ولكن وفق معايير معينة. وهذه المعايير قائمة على التقسيم الجغرافي, أي إعادة رسم خريطة المنطقة بحيث لا يسمح بقيام كيانات تهدد الكيان الصهيوني المسيطر, وقائمة على التمييز بين مناطق حكم ذاتي تحت السيادة الصهيونية ومناطق مستقلة خارج هذه السيادة, وقائمة على توزيع التركة بين الأطراف العميلة وعدم حصر الجوائز بطرف واحد إذ لا مصلحة لأميركا وإسرائيل في هذا الحصر، ثم إن هناك احتمالاً قائماً بوجود شراكة يهودية صهيونية ماسونية خفية ضمن اللعبة لا بد وأن توضع في الحسبان.
والرابع: من المشكوك فيه تماماً أن يكون المخطط الشيطاني قد لحظ إيجاد إمارات للعصابات الإرهابية التكفيرية, وإن كان من الممكن تماماً أن يتم تمكين هذه العصابات من التمركز في جزر معينة خارج حدود السيطرة الصهيونية, قد تقوم فيها إمارات غير معترف بها دولياً, أو لا تقوم، والأهم بالنسبة للأميركي أن تكون هذه العصابات قابلة لإعادة الاستخدام في الصراعات لحسابه.
لقد شخصنا الأمور على هذا النحو من زاوية توزيع التركة، لكن المسألة ليست بالبساطة التي يفترض معها أن هناك تركة وهناك وارثون يتوزعون التركة، فالمخطط كان يفترض تمكين العصابات الإرهابية التكفيرية من السيطرة على المنطقة وتقاسم هذه المنطقة بين إمارات متعددة متصارعة فيما بينها من جهة, وتتخذ من المنطقة منطلقاً لممارسة الإرهاب في أماكن قريبة من المنطقة أو بعيدة عنها من جهة ثانية, بما يعنيه ذلك من تقويض للأنظمة الشرعية والدول في المنطقة تقويضاً تاما, ثم تقوم إسرائيل بعد ذلك, وبذريعة القضاء على الإرهاب المستشري من حولها, وتخليص العالم من شروره, بغزو المنطقة وفرض سيطرتها على الأرض التي تطمع في احتلالها, وتحقق بذلك هدفها في التوسع بين الفرات والنيل, والذي هو عملياً الهدف الأساسي الكامن وراء المخطط الشيطاني منذ الأساس.