الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

في مديح الجنون

محمد راتب الحلاق
الجنون، في أبسط تعريف له، انحراف عن الشائع والسائد والنمطي من السلوك والممارسات والعادات والأفكار.. فالذي يلبس ثياباً شتوية ثقيلة (في عز الصيف) يتهم بالجنون، والذي يلبس ثياباً خفيفة (في عز البرد)، مخالفاً ما عليه الناس، ينعت بالنعوت التي تشكك بقواه العقلية، والذي يحمل السلم بالعرض، ولا يكف عن الانتقاد لمجرد المخالفة يتهم بعقله وينصرف الناس عنه اتقاءً لشره.
أصحاب الحالات السابقة وأمثالهم من الذين يتصرفون تصرفات غير منطقية وغير عقلية مجانين بالمعنى الطبي للجنون، ويحتاجون للعلاج والشفقة، وليس للمديح والتبجيل. الذين أعنيهم وأمتدح جنونهم النبيل أصحاب الأفكار الجديدة والمختلفة عن السائد والشائع من الأفكار التي انتهت صلاحيتها، وغدت عبئاً ينبغي التخلص منه، أولئك الذين يُتهمون بالجنون من قبل المستفيدين من استمرار الأحوال على ما هي عليه. حدث هذا في العصور كلها، وعند الأمم كافة. فقد اتهم هؤلاء المستفيدون الأنبياءَ والثوارَ والمصلحين بأنهم مجانين، أو كهان، أو شعراء، وعدّوهم خطراً على استقرار المجتمع وتماسكه، من خلال تسفيههم لمقدساته، وتطاولهم على رموزه، حتى وإن كان هؤلاء الرموز من الطواغيت والجبابرة. ثم جاءت الأحداث لتؤكد أن المصلحين كانوا على حق، وأنهم كانوا يعبرون عن ضمير أممهم، وأنهم كانوا صوت من لا صوت لهم، في زحمة ضجيج طغاة الإنس في المجالات كافة. والقارئ المتابع سيكتشف كيف تحول هؤلاء (المجانين) إلى أبطال وقديسين وشهداء في الذاكرة الجمعية لأممهم، وكيف تحول (العقلاء) الذين عاصروهم وعارضوهم إلى نماذج للشر والجهل والخيانة.
والذي دفعني إلى كتابة ما أكتب هذه العقلانية المبتذلة، وهذه الواقعية الرثة، التي يتذرع بها بعضهم حين يلوكون ما وضعه المستفيدون على ألسنتهم، كما هي حال بعض الكتبة والمحللين وضيوف الفضائيات، وينسى هؤلاء (العقلانيون) أن مشكلة الدول الخارجية، التي يدعون إلى مراعاة مصالحها، ليست مع الأنظمة وإنما مع الشعوب، بسبب السياسات العرجاء والظالمة التي تنتهجها تلك الدول، والتي لا تعترف بالحقوق المشروعة لتلك الشعوب، أما ما يقوله العقلانيون والواقعيون (؟؟؟؟؟؟) من أن العين لا تقاوم المخرز، وأن معاداة تلك الدول الخارجية هي الجنون المطبق، نظراً لاختلال ميزان القوة بشكل فاقع، وأن مماشاة سياسات تلك الدول ومراعاة مصالحها سيخلص الدول الضعيفة من المستبدين والفاسدين، فتدليس تكذبه الوقائع، وقد ثبت أن مقاومة السياسات الأميركية، مثلا، أخف عبئاً وأقل تكلفة من مماشاتها. ثم إن أعتى المستبدين في العالم وأكثر الناس فساداً وبلطجة هم صناعة أميركية، سواء أأعطاهم المخرج الأميركي دور البطل أم دور الحرامي في فيلمه الطويل. ولو فكرت الشعوب والأمم بهذا النحو من التفكير (العقلاني) لظل (هبل) كبيراً للآلهة في جزيرة العرب، ولاستمرت الجزائر قطعة من الأرض الفرنسية، ولبقيت فيتنام امتداداً للنفوذ الأميركي، ولما زال المستبدون عن عروشهم، ولبقي الأرقاء يرسفون في قيودهم، ولكان الظلم والقهر قدراّ لابد من تجرعه.
أما اتهام من يقفون في وجه سياسات الدول الخارجية، أياً كانت تلك الدول، بأنهم من أنصار الفساد والاستبداد فيدخل في باب التدليس السياسي والتضليل الإعلامي، حين ينسى هؤلاء أن الحرية لا تتجزأ، وأن الديمقراطية الحقيقية ليست في مصلحة تلك الدول، ولا في مصلحة عملائها، حتى وإن لبست لبوس الصداقة. ‏
اللهم أعطنا شجاعة (المجانين) النبلاء، الذين يقولون الحقيقة دون تنميق أو تزويق، ويسمون الأشياء بأسمائها الحقيقية، رضي من رضي وغضب من غضب.
‏ratebalhallak4