دراساتصحيفة البعث

تصعيد واشنطن في بحر الصين الجنوبي

استغرب البعض لهجة التصعيد غير المبررة التي استعملتها الإدارة الأمريكية تجاه الوضع في سورية، لكن هذا الخطاب الاستفزازي يندرج في سياق إستراتيجية شاملة، تعد القوة العسكرية السلاح الأفضل في ميدان السياسة الخارجية، لا بل، وصل الأمر ببعض أعضاء الكونغرس إلى التساؤل عن جدوى تصنيع أسلحة دمار شامل إن لم يكن هناك مجال لاستخدامها، وذهب بعض الصقور بعيداً في تبني النهج التصعيدي من خلال التقليل من النتائج الكارثية التي يمكن أن تترتب على أي مواجهة نووية بحجة أن الحياة عادت إلى هيروشيما وناغازاكي بعد أقل من ربع قرن من ضربهما بالقنابل الذرية، وفي هذا تجاهل واضح لواقع أن أسلحة الدمار الشامل الحالية تتصف بقوة تدميرية تفوق بآلاف المرات قدرات القنابل التي استخدمت، دون مبرر، ضد اليابان.
قد يظن البعض أن هذا يندرج ضمن إطار المبالغة لكن بالعودة إلى تقرير صدر قبل أقل من شهرين عن مركز التقويمات الإستراتيجية في الولايات المتحدة، وكان من إعداد أندرو كروبيوفيتش وجاكوب كوهن، وحمل عنوان فيه الكثير من الدلالات هو “إعادة التفكير في معركة هرمجدون، سيناريو المواجهة في العصر النووي الثاني”، وهرمجدون للتذكير هي المعركة الأسطورية المذكورة في التوراة التي يتواجه فها الخير والشر وتمهد لظهور المسيح الأمر الذي يعكس بجلاء الأرضية الأصولية لفكر المحافظين الجدد.
أما تعبير العصر النووي الجديد فيتضمن التمييز بين مرحلة انفراد الولايات المتحدة بامتلاك السلاح النووي عام 1945 وواقع وجود مجموعة من القوى النووية في عصرنا الحالي.
وقام الكاتبان بتحليل القدرات النووية لدى أربعة من الأعداء المفترضين، الاتحاد الروسي، الصين، كوريا الديمقراطية، وإيران، لكن تطور الوقائع على الأرض يشير إلى أن الصين تمثل الهدف الحقيقي للاستعدادات العسكرية التي تنفذها واشنطن، حيث يفترض استبعاد روسيا القادرة على توجيه ضربات موجعة لا يمكن ضبط تداعياتها كما يمكن استبعاد كوريا الديمقراطية التي تعاني من وضع اقتصادي، وكذلك إيران بعد التوصل إلى اتفاق معها، وتبقى الصين، القوة الصاعدة التي تمثل المنافس الاقتصادي الجدي القادر على لجم هيمنة واشنطن على الاقتصاد العالمي.
تمثل الصين معضلة بالنسبة إلى مراكز الأبحاث الغربية، فالصين البلد القارة، تمكن من تحقيق إنجازات اقتصادية كبرى في ظل قيادة الحزب الشيوعي الصيني منذ عام 1949 بشكل عام ومنذ عام 1978 بشكل خاص، في حين فشلت محاولات معظم البلدان التي حكمتها أحزاب شيوعية في تحقيق إنجازات مماثلة، كما أن تركيبة جيش التحرير الشعبي الصيني تمثل معضلة أخرى لواشنطن، حيث تلعب عقيدة الجيش دوراً حاسماً في القوات المسلحة التي تحولت بشكل أو بآخر حالة وطنية قوية شبيهة بالحزب الشيوعي الصيني.
وبينما يشير تطور الأوضاع في الصين إلى إمكانية امتلاك البلاد للقدرات اللازمة، يحاول صقور الإدارة في واشنطن تضخيمها بهدف قهر اعتراضات كل مناهضي السير نحو المجابهة مع الصين، ويعتقد هؤلاء الصقور أن امتلاك الصين قدرات عسكرية نوعية هائلة لا يعني، بالضرورة، امتلاكها القدرة على استخدام مختلف الموارد بشكل متسق، ويعتمدون في تقديراتهم على واقع أن الصين لم تخض حرباً شاملة بالمعنى الحديث، ولم تنخرط إلا في معارك حدود ضد الهند وضد فيتنام، ويفترضون عدم امتلاك الصين خبرة عملية في حشد مختلف الموارد وتسخيرها لتنفيذ خطة إستراتيجية شاملة، حيث أن الحروب الشاملة تتطلب مشاركة القوات البحرية والجوية والبرية والصاروخية بالإضافة إلى استخدام الفضاء الخارجي، بالاعتماد على شبكة اتصالات فائقة التطور، وعلى معلومات استخباراتية تم تجميعها طوال عقود من عمليات التجسس.
لم تخف الولايات المتحدة حقيقة أن توجهاتها المستقبلية تعطي الأولوية لمنطقة بحر الصين الجنوبي، التي تمثل أهم شريان تجاري في العالم وتم بلورة هذا التوجه في إطار عملية الانتقال باتجاه آسيا، القارة التي تضم أضخم ثروات الكوكب.
ويمكن إدراج تصريحات وزير الدفاع آشتون كارتر، حول إطلاق المرحلة الثالثة من خطة بناء قدرات عسكرية في مواجهة الصين، ضمن إطار الاستعدادات الجدية للسير على درب المواجهة الشاملة، إلا في حال تراجع الصين وخضوعها لإملاءات واشنطن، والانضمام لاتفاقية التجارة عبر المحيط الهادي التي تضم أحد عشر دولة مطلة على المحيط الهادئ بالإضافة إلى الولايات المتحدة.
أعلن كارتر تصريحاته هذه من قاعدة سان دييغو، وركز على أن جهود واشنطن تهدف لجعل الولايات المتحدة القوة المهيمنة في منطقة المحيط الهادئ التي تمثل ضمانة مستقبل الولايات المتحدة في قيادة الاقتصاد العالمي وفق مصالح المجمع العسكري – الصناعي. وأشار الوزير إلى أن المرحلة الأولى التي تم الإعلان عنها عام 2011 تضمنت نشر آلاف الجنود في منطقة آسيا، بهدف رفع عديد قوات الولايات المتحدة في المنطقة ليصل إلى 60% من مجموع القوات البحرية والجوية، إلى جانب تطوير قواعد الولايات المتحدة العسكرية في كل من اليابان وكوريا الجنوبية وجزيرتي غوام وهاواي، إلى جانب تطوير التعاون العسكري مع أستراليا.
وتضمنت المرحلة الثاني إرسال أحدث المعدات الحربية إلى منطقة المحيط الهادئ، بما في ذلك مقاتلات من طراز ف-22 وف-35 وأسراب من القاذفات الإستراتيجية، وترافق هذا مع توسيع التعاون العسكري مع دول المنطقة بغرض فرض حصار على الصين من خلال تعزيز التعاون مع جيوش اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلندا والفيليبين والهند وفيتنام وسنغافورة، بحيث يصعب على القيادة الصينية تحديد مصدر الضربات الأولى.
وبالمقابل تضمنت المرحلة الثالثة إطلاق عملية تحديث لمختلف الأسلحة تم تخصيصها بموارد مالية ضخمة حيث تضمنت الميزاني العسكرية المخصصة للعام القادم مبلغ 34 مليار دولار لتطوير قطاعات الحرب الإلكترونية، واستخدام الفضاء الخارجي لتوجيه ضربات مفاجئة موجهة بالأقمار الصناعية. لا يعني هذا أن المواجهة حتمية لكن هذا التوجه يؤكد حقيقة أن الممسكين بمفاصل القرار في واشنطن لا يترددون في المخاطرة بدخول مواجهة يمكن أن تؤدي إلى نتائج كارثية.
د. مازن المغربي