ثقافةصحيفة البعث

د. عفاف الشب: أعمال البيئة الشامية نسخ متشابهة لا تشبه الواقع

 

تضع الكاتبة د.عفاف يحيى الشب ما يشبه التعريف لمعنى الأعمال الدرامية البيئية انطلاقاً من تعريف البيئة بالمجمل، لتكون واحدة من مهام هذه الأعمال تسليط الضوء على مجموعة المتغيرات والظروف والأحداث، ما يعني أن هذه الأعمال قد تكون بمثابة توثيق لتلك المتغيرات والأحداث من حروب وأزمات.. ومن جانب آخر تنقل هذه الأعمال لمحات من حياة الأجداد إلى الأحفاد ليتلمسوا عن طريق الصورة ما يودّون معرفته والإحاطة به.. وهذا كله برأيها يمكن وضعه بالمجمل تحت عنوان (الانثربولوجيا) أي علم الإنسان الذي يهتم بدراسة سلوك الإنسان من زوايا متعددة، شريطة أن يكون موثقاً جيداً في بعض مفاصله الهامة، بما يعني دراسة مختلف مساعي البشر في المجتمعات القديمة والمعاصرة وما هي ملامح وطبيعة تلك الأحداث التي شهدتها تلك البيئات، وعليه تأتي الدراما لتؤطرها بلمسات إبداع فنية وتطلقها للنور.

أيام شامية
وترى د. الشب أن تاريخ الأعمال البيئية قديم، وأن ما جعلها مركز الاهتمام هو العمل البيئي “أيام شامية” الذي استطاع منذ سنوات طوال أن يفرغ الشوارع من الناس في وقت بثه، وقد جمع بين حبكة القصة ومعانيها ورموزها النبيلة وملامح نظيفة للحياة الاجتماعية في دمشق، وبعدها كانت ولادة “باب الحارة” الذي يمكن القول أنه في جزأيه الأول والثاني كان فانتازيا بيئية من حيث جمال المفروشات الفخمة المصنوعة من الموزاييك المعشق بالعاج مع أقمشة البروكار الفاخرة، إضافة إلى بهاء البيوت القديمة ذات البحيرات الجميلة وأرض الديار المحتضنة لأشجار النارنج والكباد وعرائش الخميسة والياسمين، فبدت دمشق وكأنها قصيدة بديعة، وتذكر د.الشب أن صحيفة أميركية قالت عن “باب الحارة” الجزء الثاني أنه يُصنَّف من بين أكثر عشرة أعمال درامية جماهيرية عالمياً، مبينة أن الانعطاف نحو دراما بيئية مشوشة كان حين كرَّت السبحة وتوالت أجزاء عدة من “باب الحارة” مع ظهور فكرة استنساخ مسلسلات شامية أخرى مثل “أهل الراية” و”بيت جدي” و”رجال العز” و”خاتون” و… و.. وهنا سقطت الأعمال البيئية –برأيها- في عدة مطبات، أولها التكرار الممل والمحاكاة في المشهد البصري المنسوخ، والأهم خروج تلك الأعمال من مسرح الحقيقة والإبداع وعن واقع المجتمع الشامي حين راحت إلى الاستهتار وسعت بكل إصرار إلى استجرار قصص واهية تشد المتلقي الذي كان بدايةً مهتماً بتلك النوعية من الأعمال، وتأسف د.الشب لأن أحداث تلك الأعمال كانت ترصد فترتَي الاحتلال العثماني والفرنسي ومع ذلك فإن بعضها تجاهل هذا الجانب نهائياً، والبعض الآخر غرق في أخطاء تاريخية جسيمة وفي تكوين مجتمع بيئي جديد لا يشبه مجتمعنا، من حيث تغييب دور العلم والفكر ومن حيث إظهار المرأة مجرد إنسانة لا تفقه إلا بالطبخ والثرثرة وحضور الأعراس وإطلاق الزغاريد، لتكون بالمجمل بطلة تلك الأعمال هي “الداية” وهذا غير وارد على أرض الواقع، فالداية لم تكن تقوم بدور المختار مثلاً أو تقرر عفّة إحدى بنات الحارة أو العكس، مع التركيز على استخدام مفردات شعبية مثل “ابن عمي” بكثافة عالية لم تكن كذلك في الواقع.. وعلى العكس فقد كانت هناك نساء في تلك المرحلة رسمن الخطوط الأولى لتحرر المرأة مثل ماري عجمي ونازك العابد ونديمة المنقاري وغيرهن.

شوهت المجتمع
ومن الحوادث الطريفة التي شهدتها تلك الأعمال -كما تشير د. الشب أن أحد كتّابها قال في لقاء تلفزيوني: “نحن لا نريد توثيق الأحداث ولا الحديث مثلاً عن عدنان المالكي وعبد الرحمن الشهبندر” في اعتراف ضمني بنقل أعمال البيئة من كونها ترصد تاريخ البيئة الاجتماعي والسياسي لمرحلة ما، إلى مجرد أعمال كوميدية خفيفة سطحية ليس لها بعد تاريخي.. من هنا لم تقدم هذه الأعمال صورة حية وواقعية عن طبيعة المجتمع الدمشقي، بل شوهت ذاك المجتمع، ولا تنكر د.الشب أن تهافت المنتجين لإنتاج أعمال بيئية أربك دراما البيئة في نسخها المتشابهة التي لا تشبه الواقع ومن ثم السعي لإنتاج أجزاء مطوّلة لكل عمل بيئي، مما أسقط أهمية تجسيد البيئة الشامية وجعل العملَ يتناقض مع نفسه ويدفع المشاهد إلى الملل والاستهجان، ومع ذلك مازلنا نرى حماس المنتجين والفنانين للمضي في تفعيل دور الأعمال البيئية بعيداً عن قضايانا الحالية التي تحتاج احتواء درامياً انطلاقاً من أن الدراما هي ذاكرة الأمة وسجلها الثقافي للأجيال القادمة، ولذلك ولمّا كانت هذه المرحلة الراهنة محتقنة بالأحداث كان على شركات الإنتاج –برأيها- القدوم إلى الزمن المعاصر ومساعدة التاريخ على توثيق أحداثه بمقدار معين ونقلها بأمانة عالية إلى الأجيال القادمة، واعتبرت أن بعض الفنانين الذين تضامنوا مع هذه النوعية من الأعمال كان منطلقهم أنها نفس الأدوار في أعمال بيئية متعددة بما يحقق لهم النفع المادي، وهنا تتجلى إحدى السلبيات في تلك الأعمال.
وفي سؤال سبق وأن طُرِح على د. الشب في مقابلات عدة حول رأيها بالأعمال البيئية قالت وأكدت أن أعمال البيئة بشكل أو بآخر وضعت الجيل الحالي في صورة مرئية لبعض صناعاتنا وجمال المنازل القديمة وطبيعة الأزياء التي تختلف عن الحاضر, إضافة إلى أنها لا تحمل بذور انحلال أخلاقي بما يمكّن الأسرة الرمضانية مجتمعةً مشاهدتها، ومن هنا ومن التناقض الذي حملته أعمال الخيانات الزوجية الحديثة تمكنت العائلة أن تكون حاضرة ومتابعة وناقدة لتلك الأعمال.
وتخلص د. الشب إلى التأكيد على أن كتابة الأعمال البيئية تحتاج إلى اختصاصي في تاريخ المدن والشعوب، والأهم أن يكون لكل عمل بيئي مستشار أكاديمي تاريخي، تماماً كما شهدنا في الأعمال السابقة، مع إشارتها إلى ضرورة توقف الكثير من الأعمال البيئية حالياً، خاصة وأن هناك أعمالاً سنتابعها هذا العام لا تحمل لا الإبداع ولا القصة الجديدة ولا ملامح الرفاهية للبيئة الدمشقية كحال الأعمال الأولى، مع تأكيدها على أن ما تقوله اليوم ليس للنيل من أحد، بل من باب التصويب والخروج قليلاً من عباءات العمل البيئي النمطي للوصول إلى صيغة جديدة واقعية حيوية أصيلة عريقة للبيئة الشامية، بعيداً عن الإسفاف وتقزيم دور النساء وأخذ الرجال إلى مجاهل العنترية وتعدد الزوجات.
أمينة عباس