دراساتصحيفة البعث

فرنسا المطيعة أم المتمردة؟

ترجمة: هيفاء علي
عن لوغراند سوار 20/2/2018
طالبت النائبة كليمانتين أوتان- عضو حزب “Ensemble” الذي يجسّد فرنسا المتمردة، وأحد مكونات جبهة اليسار الفرنسي- من جان لوك ميلنشون تغيير استراتيجيته، ودعت فرنسا المتمردة إلى الانضمام لصفوف اليسار أكثر فأكثر لتأسيس البديل عن ماكرون، لأن الفرنسيين اشمأزوا من اليسار وسياسته، وأيضاً من الأحزاب التاريخية.
“بالنسبة للناخب، لا يمكن مسح التاريخ بطرف اليد، وإذا كان الهدف بناء الأكثرية، فلن ينقصه أي صوت مولع بالقطيعة الاجتماعية والبيئية”، هكذا تحكم كليمانتين بقساوة على الخلاف بين الحزب الشيوعي الفرنسي والأحزاب المتمردة، داعيةً تلك الأحزاب لإجراء مناقشات صريحة واستراتيجية مع الحزب الشيوعي الفرنسي.
أما بالنسبة للحزب الاشتراكي، عبّرت كليمانتين عن ارتياحها من أن “فرنسا المتمردة” تنفصل عن اليسار الذي استسلم للسلطة والمال، لكنها شددت على أنه إذا أردنا انتزاع السلطة من أيدي مدمري الحياة والعلاقات الاجتماعية، فلابد من إعادة تشكيل أكثرية من الأفكار والتحالفات السياسية، وطالبت بكل وضوح بإحياء الشعبوية، وبتقارب جوهري مع بينوا أمون الوزير السابق في عهد هولاند المناصر
“للسيادة الأوروبية”، لكن ما الذي تعنيه هذه التصريحات؟.
يبدو أنه برأي كليمانتين وآخرين غيرها في قلب “فرنسا المتمردةFI”، فإن الرغبة قوية جداً لضم قوى إضافية دون الاهتمام بمضمون هذا الانضمام، أو بالأحرى العمل على إضعاف هذا المحتوى لأقصى درجة، خاصة حول مسألة الاتحاد الأوروبي الاستراتيجية، وماذا تعني هذه الدعوة للتيارات والأحزاب السياسية، وللمفكرين والفنانين والهيئات الوسطية، إلا كونه نداء للحزب الاشتراكي، والحزب الشيوعي الفرنسي، وللإدارات النقابية ذات الثقل المتنامي للطبقات الفكرية الوسطى، وتقليص ثقل الطبقة العاملة في تركيبة فرنسا المتمردة؟.
حقيقةً، يعتبر “التحوّل الاستراتيجي” الذي تطالب به كليمانتين بمثابة ضربة موجعة ليمين فرنسا المتمردة، بينما تمضي قوى أخرى إلى اليسار، تحديداً إلى القطيعة مع القوى “الأوروبية البناءة” التي تهيمن على الـ “PGE” أحزاب المجموعة الأوروبية، إذ لا يمكننا أن نكون لا مبالين إزاء ما يجري في قلب فرنسا المتمردة، كما لا يمكننا أن نكون لا مبالين تجاه ما يحدث في قلب الحزب الشيوعي الفرنسي في سياق مؤتمره، لأن الوقت ليس وقت الانعزالية والتحزَب، بل وقت العمل، والبحث عن تقاربات ووحدة العمل، وهذا لا يعني أبداً السكوت عن محاولات الأحزاب الانتهازية الرامية إلى دفن الديناميكية المؤكدة لترشيح جان-لوك ميلانشون إلى انتخابات تسيبراسية في الرمال المتحركة لما وراء الأوروبية والهيئة الانتخابية السوقية، إذ لا يمكن أن تتشكل الوحدة إلا في ظل النضال والوضوح، وغالباً ما يكون نضال الطبقات مفعماً بالتوريط واتهامات نجد بينها دور الطبقة العاملة، وطبقة العمال في القرن الواحد والعشرين التي توسعت لتشمل مجالات جديدة من الإنتاج ذي القيمة المرتفعة، لكنها تبقى الطبقة العاملة.
بالنسبة لنا نحن أنصار الجبهة الشعبية الوطنية البيئية المناهضة للفاشية، فإننا نشدد على الدور الحاكم الذي يتعين على الطبقة العاملة الاضطلاع به وسط هذه الجبهة، صحيح أننا لم نقر هذا الدور، ولم نقر الإضراب العام، لكننا نعمل على التحضير له وإعداده وبنائه بقوة العمل والتماسك، لأنه شرط النجاح، وإثبات الميل، والتغيير الصريح إلى اليسار.
عند التفكير المتعمق ومن وجهة نظر انتخابية سطحية، فأمام “التمرد” الكثير للكسب والانفتاح على ملايين العمال والموظفين و”المؤقتين” الذين يرفضون الاتحاد الأوروبي علناً، الذين يعبّرون عن طموح وتطلعات “فرنسا المتمردة” صراحة ضد الاتحاد الأوروبي، في حين نرى أن الجبهة الوطنية تتنكر لكل فكرة حول الانفصال الفرنسي عن الاتحاد الأوروبي، ذلك أن هذا الحزب البرجوازي تنازل رسمياً عن أي نزاع حول اليورو، وعليه يجب الاختيار بين الصوت الشجاع، وبين الطبقة التي تقود المواجهة مع الأوليغارشية، وتطرح موضوع الاشتراكية بالنسبة لفرنسا، وصوت العودة المزرية إلى جبهة اليسار الأوروبية التي لم “تولع” على الإطلاق بالطبقات الشعبية، ولا بشريحة الشباب.
لقد رأينا ما غدت عليه الحركة الشعبية، فهي تاهت وتفككت من بلوم إلى ميتران، مروراً بتسيبراس وآخرين، وإذا لم تضطلع الطبقة العاملة وعالم العمل بدورها المحوري بعد أن ضللت البرجوازية الصغيرة الحركة الشعبية، فإن الفشل سيقودها إلى حافة الهاوية، ومن لا يرى خلف التكاتف العاجل والمحتوم مع فنزويلا البوليفية، أن المشكلة ليست بالاشتراكية، وما الذي تتذكره عن سان جست، وعن جملته المنذرة: “أولئك الذين يقومون بالثورات ويتوقفون في منتصفها لا يعملون إلا على حفر قبورهم بأيديهم”.
يجب ألا تستسلم فرنسا المتمردة، بل على العكس يتعين عليها أن تصبح، كما قلنا، فرنسا المتمردة صراحة بلا تردد كي تكسب الأحزاب والتيارات التاريخية، والمفكرين، والفنانين، والقوى المشكّلة، والهيئات الوسطى، وتكسب الجماهير الشعبية أيضاً، لأن هذه الجماهير هي التي صوتت للجبهة الوطنية، وعبّرت عن رأيها إزاء الاتحاد الأوروبي، واليورو، وتم حينها تسجيل رفض 67% من الموظفين، 70% من المزارعين، و79% من العمال، و71% من العاطلين عن العمل للمعاهدة الدستورية في كل الانتخابات الأوروبية، وحتى في الانتخابات الأوروبية التي جرت عام 2014، كانت النسب على النحو التالي: 69% عاطلون عن العمل، 68% موظفون، و65% امتنعوا عن التصويت فيها، والخطة “ألف وباء وسين” تحمل في طياتها القليل للشعب، وتهدف جميعها إلى الخروج من القيود الأوروبية التي تسحق حياة الملايين من العمال، والمأجورين، والمرضى، والطلاب، والفلاحين، والموظفين الذين قالوا جميعهم كلمتهم، وصرخوا منذ سنوات عدة، وامتنعوا عن التصويت في الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية الأخيرة، وحينها شكّلت نسبة الامتناع الأكثرية، وسجلت آنذاك 56%، وهو رقم قياسي مطلق، في حين أن أية قوة هامة وطنياً لم تعد تتحمّل “بريكست”، ما شكّل إشارة جديدة لهذا الانتظار الخائب.
وبالنسبة لأولئك الذين يسقطون تشاؤمهم وروح الهزيمة لديهم على الواقع، ويصرحون بأن موضوع “البريكست” لم يأخذ حقه من اهتمام الحكومة الفرنسية، ننصحهم بالرجوع إلى آخر حديث تلفزيوني أدلى به ماكرون لقناة بي بي سي حين صرح بكل وقاحة بأنه إذا لم ينظم استفتاء حول الاتحاد الأوروبي فذلك لأن أكثرية الفرنسيين سوف يصوتون لصالح “البريكست”، والانفصال عن الاتحاد الأوروبي، ولكن على الحركة الشعبية ومكوناتها الاختيار، اختيار الجانب الإيجابي للمعارضة، ألا وهو المصلحة الشعبية التي تتطابق مع المصلحة الوطنية.
أما الشيوعيون في قطب النهضة الشيوعية في فرنسا (PRCF)، فقد حملوا شعلة الحزب الشيوعي الفرنسي، واختاروا منذ اليوم الأول، وكانوا الوحيدين آنذاك، الخروج من الاتحاد الأوروبي، ومن اليورو، كما اختاروا الخروج من حلف الناتو في سياق ثوري، على أمل الخروج من النظام الرأسمالي، وفيما بعد انضم إليهم آخرون، فيما تردد آخرون، وهم يفكرون بحقائق الطبقة الأكثر تناقضاً، لكن ظروف الحياة حسمت الأمر، إذ كيف بعد الكارثة اليونانية نزعم إرساء الديمقراطية في الديكتاتورية الأوروبية التي تحاول من خلال تسيبراس حظر الإضراب في أثينا التي تتحمّل في قلبها حكومات هنغارية، بلطيقية، ونمساوية مفعمة جميعها بالنازية الجديدة التي تدفع إلى تجريم الأحزاب الشيوعية في كل أنحاء شرق الاتحاد الأوروبي، فهل يمكن الادعاء ببناء اتحاد أوروبي اجتماعي؟ وكيف يمكن تبرير مثل هذا الوضع؟.
هذا الانحباس في غمامة فكرية ومصالح طنانة ومترنحة دفع بعض الأحزاب والنقابات الشعبية للالتحاق باليسار الأوروبي، واتحاد النقابات الأوروبية، لكن هذا الترابط والتماسك لا يعني إلا أنهم من أنصار الخروج من الناتو، ويعلنون تأييدهم للخروج من الاتحاد الأوروبي الذي يعرف نفسه على أنه “الشريك الاستراتيجي” للناتو، والذي يجعل من الانضمام إلى الناتو شرطاً للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي!.. ما من أحد يجرؤ على قول ذلك للناتو: كيف بالوسع إهانة منطق وروابط القوى الحقيقية إلى هذه الدرجة عندما يتعلق الأمر بالاتحاد الأوروبي المقدس؟ المنظرون أنفسهم سيتهمون الحقائق بـ “الدوغمائية”، الحقائق التي تؤكد أن الاتحاد الأوروبي الذي يعرف نفسه على أنه “اقتصاد السوق المفتوح على العالم، حيث التنافس حر وغير مزيف”، لا يمكن إصلاحه.
لقد خلع اليمين المتطرف قناعه المعادي للاتحاد الأوروبي بعد تعرّضه لضغوط أوساط أرباب العمل، والتراتبية الكاثوليكية العليا، ولم يبق سوى اليسار الحقيقي الوطني والشعبي إلى جانب العمال والموظفين للمطالبة “ببريكست” تقدمي، هكذا ستضم فرنسا المتمردة أشياء أخرى غير الأشباح السولفيرنية، والبيروقراطيات المتأوربة، وعدا اليسار الصغير الذي تجسّده كليمانتين أوتان، وفي ظل الظروف الراهنة، سيعمل اليسار على إنعاش الذهنية الفاتحة والجامعة للمجلس الوطني للمقاومة، ولنهضة فرنسا الجديدة.