دراساتصحيفة البعث

امبراطورية ولكن بلا أصالة

عبد الرحمن غنيم
أخيراً حدث في البيت الأبيض ما يشبه المعجزة, حين تصرفت الإدارة الأمريكية لأول مرة كما لم يسبق لها أي إدارة أن فعلت منذ نشأة الكيان الصهيوني وحتى الآن، فلقد تجرأت لتتهم بالكذب رسمياً رئيس الحكومة الصهيونية بنيامين نتنياهو, وذهبت إلى ما هو أبعد من ذلك، بمطالبته بتكذيب نفسه!.
التصرف أتى بعد أن أعلن الرئيس ترامب قراره بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس والاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني!. وهذا ما زاد في غرابة الحدث.
لكن إن عدنا بذاكرتنا إلى ما يتصف به سلوك الرئيس الأميركي ترامب من سيكوباتية, فستزول الغرابة، وسيذكرنا تصرفه بسلوك مماثل فعله الرئيس المصري الأسبق أنور السادات حين أصدر قانوناً غريباً أسماه في حينه “قانون العيب” مع أنه نفسه ارتكب ما هو أكثر من العيب حين ألفة خطاباً داخل الكنيست الصهيوني، وعقد اتفاقيات كامب دافيد مع الصهاينة.
من الواضح أن ترامب, وبمنطق رجل الأعمال المغامر, شعر أنه أعطى للصهاينة ما كانوا يدّعون أنها غايتهم الأهم, لكن نتنياهو تجاوز الحدّ حين ادّعى بوجود تفاهم مع الإدارة الأمريكية حول ضم المستوطنات في الضفة الغربية أيضاً, وكأنه بهذا الكلام، يفرض على الرئيس الأميركي صفقة لم يتح له أصلاً بحثها أو اتخاذ موقف بصددها، وإن دلّ سلوك نتنياهو على شيء، فعلى أن القادة الصهاينة باتوا يعتقدون أن كل أهوائهم يمكن أن تتمّ تلبيتها من قبل الإدارة الأمريكية, وأن هذه الإدارة لا يمكن أن تقول لهم كلمة “لا” بعد أن غابت هذه الكلمة عن القاموس الأميركي المتعلق بالكيان الصهيوني وحساباته.
والمفارقة هنا، أن هذا الزعم الصهيوني يعكس في الواقع حقيقة المشكلة التي تعاني منها السياسة الأمريكية تجاه الكيان الصهيوني، والسؤال هو: ما هي جذور هذه المشكلة؟.
حين نكون بصدد الحديث عن السياسة الأمريكية، لا بدّ أن نسلم بالحقيقة القائلة بأن الولايات المتحدة الأمريكية نموذج فريدٌ من نوعه، ولا يعني قولنا إنه نموذجٌ فريدٌ من نوعه أنه نموذج مثالي, بل إن العكس تماماً هو الصحيح، ذلك أن العامل الأساسي الذي تفتقر له الولايات المتحدة بشكل عام، وسياستها الخارجية بشكل خاص، هو الأصالة.
لكن ما الذي نعنيه بالأصالة؟.
إن الأصالة تعني أن الشعب الذي تمثله الدولة بسياساتها هو شعب عميق الجذور, ويملك هويته القومية والحضارية, ويمتلك القيم والمثل والدوافع المشتركة التي لا تستطيع السلطة السياسية إلا أن تحترمها وتتقيد بها في سلوكها السياسي، فهل تمتلك الولايات المتحدة مثل هذه الأصالة؟.
في الإجابة على ذلك، نبين أمرين مؤكدين هما:
الأول – أن موجات المستوطنين الأوروبيين, ومن خلفيات قومية متعددة وليس من خلفية قومية واحدة, شنت على سكان أميركا الأصليين الهنود الحمر حرب إبادة, فلم يبق من أولئك السكان إلا النزر اليسير. وهذا النزر اليسير يشكل أقلية سكانية ضئيلة, بحيث لا يستطيع أحدٌ الزعم بوجود أيّ تأثير ملموس له على المجتمع الجديد الطارئ المتشكل من المستوطنين الجدد.
وبالتالي, فإن أقصى ما يمكن قوله: إن العنصر الأوروبي, هو الذي طغى على المجتمع الجديد المتشكل, وهذا ما يتضح من تبنّي اللغة الانجليزية بلهجتها الأمريكية لتكون اللغة الرسمية للولايات المتحدة الأمريكية، وهي بطبيعة الحال لغة مستعارة.
والثاني – أن المجتمع الأمريكي استمر في استقبال الهجرات القادمة من الخارج لتأمين الطاقة البشرية اللازمة لنموه الاقتصادي, وما زالت هذه العملية مستمرة حتى الآن، وهنا لم تقتصر الهجرة على الأوروبيين, بل شملت مهاجرين من كل دول العالم, بحيث صار المركّب الأميركي في نهاية المطاف صورة مصغّرة عن العرقي والثقافي العالمي، وفي الولايات المتحدة تلتقي كل الأعراق, وتجتمع كل اللغات والثقافات، ومن العبث الافتراض بأن التدبير الأميركي المتعلق بتعلم اللغة الانجليزية كلغة للتخاطب اليومي يعني انصهار الجميع بشكل تلقائي، ومن العبث أيضاً الافتراض بأن وجود السلطة الفيدرالية يعني التعبير النظامي عن هذا المركب المعولم في المجتمع أو التجمع الأميركي, أو أن السياسة الأمريكية تعكس بشكل لا لبس فيه هذا التعدد اللامتناهي في صيغة التجمع الأمريكية, أو أن هذه السياسة تحترم كل مكونات الشعب الأميركي.
هذا يعني أن المجتمع الأميركي مكوّنٌ من فسيفساء لامتناهية من ناحية التكوين الثقافي والنفسي، وإن ما يجمع هذه الفسيفساء أمران أساسيان هما: الحاجة إلى الانخراط في العمل, والحاجة إلى لغة مشتركة في التخاطب، وهاتان الحاجتان هما القشرة الرقيقة التي تغلف الحقيقة, لكنها لا تستطيع نفي وجود التعدد وما ينجم عن هذا التعدد من ضعف في الشعور بالانتماء حيث لا يستطيع أحدٌ حتى الآن أن يتكلم عن وجود “قومية أمريكية”، وإن الصفة أو الهوية الأمريكية هي بطاقة جنسية رسمية, وليست هوية ثقافية ونفسية متجذرة، وإن ما يسند هذه الصفة يتمثل بالمصلحة الشخصية أكثر من أي شيء آخر, بل دون أيّ شيء آخر، ولأن من يحصل على الجنسية الأمريكية يشعر بأنه حصل على فرصة عمل بالدرجة الأولى وتعود عليه بالفائدة المادية, ولا حاجة عنده للتفريط بها.
ثمة وجه آخر لمشكلة المجتمع الأمريكي والسياسة الأمريكية لا بدّ من التوقف عنده أيضاً وفهم دلالته, وهو أن الولايات المتحدة هي اتحاد فيدرالي من 50 ولاية, وهو عملياً اتحاد مكوّن من خمسين دولة، وكل واحدة من هذه الولايات أو الدول معنية بالشأن المحلي الداخلي وبالعلاقات البينية بين الولايات, بينما للسلطة الفيدرالية اختصاصاتها الرئيسية المتعلقة بالسياسة والدفاع والأمن والسياسة المالية، وطبيعي في هذه الحالة أن ننتبه إلى مسألتين:
أولاهما – تتمثل في توزيع الفسيفساء الأمريكية على الولايات, حيث تختلف نسب هذا التوزيع من ولاية إلى أخرى.
وثانيهما – نفوذ بعض مكوّنات الفسيفساء الأمريكية على السلطة الفيدرالية.
وهنا يبرز دور جماعات الضغط في التأثير على السياسات الأمريكية, أي الحكومة الفيدرالية، وبالرغم من تعدد جماعات الضغط في الولايات المتحدة, وأن أكبرها هو اللوبي الأيرلندي, إلا أن اللوبي اليهودي- الصهيوني- الإسرائيلي هو اللوبي الأكثر تأثيراً على السياسة الأمريكية, وذلك لأسباب متعددة, يمكن رصد أهمها بما يلي:
الأول: دور رجال المال اليهود في الولايات المتحدة وفي العالم, والعلاقة القائمة بينهم وبين الكارتلات الاحتكارية الصناعية أي بالتركيبة الرأسمالية.
الثاني: سيطرة اليهود الصهاينة على وسائل الإعلام الرئيسية في الولايات المتحدة, وهي سيطرة قديمة حرص عليها اليهود منذ زمن بعيد ولا زالوا يحرصون عليها، وقد تطورت ونمت مع تطور وسائل الإعلام خلال العقود الأخيرة من الزمن.
الثالث: وجود الكيان الصهيوني في فلسطين والنظرة الأمريكية الرسمية إليه كنموذج إضافي جرى استنساخه –ولو جزئياً– عن التجربة الأمريكية في الاستيطان على حساب السكان الأصليين, ونظرة أمريكا إلى هذا الكيان كما لو كان امتداداً للولايات المتحدة, وخادماً للمصالح الأمريكية في مواجهة العالم العربي والإسلامي. وقولنا هنا “أنه استنسخ ولو جزئياً” لأن ثمة فارق أساسي بين النموذج الأميركي المفتوح والمعولم وبين النموذج الصهيوني المغلق والمنغلق.
الرابع: صعود اليهود ليشكلوا الصفوة على مستوى الإدارة الفيدرالية الأمريكية، ومع أن هذا الصعود بدأ منذ أوائل القرن الماضي إلا أن تركيز دور الصفوة اليهودية في الإدارات الأمريكية حدث في ستينيات القرن الماضي, واستمر منذ ذلك الحين وحتى اليوم.
والخامس: الطبيعة العالمية للمنظمة الصهيونية العالمية وما تتضامن معها من المنظمات اليهودية وخاصة الاتحاد الإسرائيلي العالمي, والدور المؤثر الذي يمكن أن يلعبه اليهود الصهاينة بسبب هذه الصفة في خدمة المصالح والسياسات الأمريكية في العديد من دول العالم الأكثر أهمية ووزناً مثل روسيا ودول أوروبا الغربية عدا عن الدول الأخرى.
هنا لا بدّ وأن يخطر بالبال السؤال القائل: هل يعني هذا أن اللوبي اليهودي الصهيوني وضع يده على الولايات المتحدة بشكل نهائي, وأنه لا يوجد أمل بأن تفرز الفسيفساء الأمريكية جماعة أو جماعات ضغط أخرى قادرة على زحزحة اللوبي الصهيوني أو تقليص نفوذه؟.
دعونا نسلم بأن الوضع الراهن يعني تغوّل اللوبي اليهودي – الصهيوني, وأن هذا التغوّل مكن هذا اللوبي من توزيع قوته على الحزبين الرئيسيين الديمقراطي والجمهوري والهيمنة عليهما, والأهم أن هذا اللوبي نجح في التأثير على الوعي السياسي لدى قطاعات ليست بالقليلة من قطاعات الرأي العام الأميركي.
وقد اتخذ هذا التأثير أبعاداً دينية ومصلحية متعددة, كما أن تمحور هذا التأثير في الولايات الأكثر أهمية بالنسبة للحكومة الفيدرالية, حيث نلحظ تمركز اليهود في بعض الولايات مقابل غيابهم شبه الكلي عن ولايات أخرى.
والواقع الذي لا بد أن نلاحظه هو أنه تشكل في الولايات المتحدة إلى جانب اليهودية الصهيونية جهات أخرى مثل المسيحية اليهودية والمسيحية الصهيونية, ناهيك عن دور الماسونية والمنظمة المسماة بشهود يهوه, مما يعني اختلاط الحابل بالنابل وتوسع أفق السيطرة والتحكم من قبل اللوبي الصهيوني.
في ظل هذا الوضع, لا يستطيع أحد الافتراض بإمكانية ظهور لوبي أميركي مضاد للوبي اليهودي الصهيوني إلا في إحدى حالتين:
الأولى – أن تجتمع العديد من مكونات الفسيفساء الأمريكية ذات الأصول الآسيوية الإفريقية وفئات أخرى يمكن أن تأتلف معها لتشكيل اللوبي الخاص بها.
والثانية – أن يطوّر اللوبي الأيرلندي بالذات رؤيته للأمور, وأن يقرر على هذا الأساس مواجهة اللوبي اليهودي الصهيوني كخصم تجب منافسته على المستوى الفيدرالي وإقصاؤه بدلاً من انحياز معظم –إن لم نقل كل– ممثلي هذا اللوبي للوبي اليهودي الصهيوني، وهذا الانحياز يعطي حالياً للوبي الصهيوني قوة إضافية في الواقع.
إن تشكل إحدى هاتين الحالتين أو كليهما يتطلب تغييراً في نظرة المواطنين الأمريكيين إلى الأمور، متجاوزين منطق تركيز الاهتمام على فرص العمل والكسب, أو حصر النشاط الاجتماعي –إن وجد– ضمن المكونات الثقافية والعرقية المتمايزة بعيداً عن التفاعل الأوسع الذي يتطلبه الوضع، كما أن هذا التشكيل أو هذا التجاوز يتطلب إيجاد روافع فكرية وإعلامية تسنده في مواجهة شبكة الإعلام الصهيوني المسيطر، وللأسف, لا نرى في الولايات المتحدة ما يدل على تشكل مثل هذه الاتجاهات, إذ أن المصلحة الفردية أو الخلاص الفردي يظل هو المهيمن على السلوك.
ثم إن فرضية إيجاد صيغ تنظيمية لبعض مكونات الفسيفساء الأمريكية هي فرضية صعبة التحقق في دولة فيدرالية هي بحجم قارة، والأهم أن يكون بوسع هؤلاء التأثير على الحكومة الفيدرالية, الأمر الذي يستوجب الوصول إلى ثقل نوعي في العملية الديمقراطية، ولو على مستوى بعض الولايات الكبيرة المؤثرة أو متوسطة الحجم, حيث أنه من المستحيل التأثير على كل الولايات في وقت واحد، وحتى لو تشكلت أقلية ناشطة في كل ولاية أمريكية, فإنها ستبقى في مؤخرة المقطورة, ولا فرصة أمامها للوصول إلى القاطرة, أي إلى الأجهزة المؤثرة على الحكومة الفيدرالية.
لكن هل يعني ذلك أن الوضع الأميركي هو وضع ميؤوس منه؟. ولنلاحظ هنا أننا نتحدث عن الداخل الأميركي ليس عن السياسة الأمريكية في الخارج، وعن سعيها إلى الهيمنة وما يمكن أن تواجهه هذه السياسة من تحديات خارجية، ولأننا نفترض أن الداخل الأميركي بمعظم مكوناته يحتاج إلى إعادة التوازن للسلطات الفيدرالية بعد أن باتت هذه السلطات تحت الهيمنة اليهودية الصهيونية.
في الواقع أن اللوبي الأميركي القويّ القائم, والذي يحتاج إلى تغيير وليس فقط إلى تطوير نظرته إلى الأمور هو اللوبي الأيرلندي، وحين نقول اللوبي الأيرلندي فنحن نتحدث عن جماعة بشرية لها خلفيتها التاريخية والثقافية الخاصة، فالأيرلنديون لهم أصولهم السلتية التي تعود جذورها التاريخية القديمة إلى المنطقة العربية, وإن هجرة أسلافهم من أيرلندا إلى أمريكا الشمالية, وبأعداد كبيرة وصلت إلى حوالي 40 مليون مهاجر, لم تكن هجرة اختيارية بل تحت ضغط الغزو الأنجلو سكسوني من جهة، والأوضاع الاقتصادية من جهة ثانية, ومعروف أن أيرلندا كدولة أوروبية ليس لها ماض استعماري, بل إنها تعاني حتى الآن من احتلال بريطانيا لجزء من أراضيها, وهي المعاناة التي عبّر عنها نضال الحزب الجمهوري الأيرلندي، ثم إن الأيرلنديين كانوا نقطة البداية في نشر الديانة المسيحية في الغرب حين استقبلوا المبشرين بهذه الديانة وتجاوبوا معهم, ولم تشهد أيرلندا أيّ اضطهاد للدعاة المسيحيين مثلما حصل في أنحاء الإمبراطورية الرومانية.
وحين ننظر إلى هذه الأمور مجتمعة, نجد أن هناك ثلاثة عناصر أساسية يمكن أن توصل اللوبي الأيرلندي في الولايات المتحدة، ليس فقط إلى تعزيز دوره باعتباره اللوبي الأكبر, والذي يعكس في حجمه نسبة كبيرة بين السكان في مختلف الولايات, ولكن أيضاً لتعزيز علاقاته مع العديد من مكونات المجتمع الأمريكي, وأول هذه العناصر يتمثل في وعي الذات من خلال معرفة جذور ثقافته السلتية الخاصة, وثانيها الدفاع عن الذات باعتبار موقفه امتداداً لتاريخه الفعلي وما تضمنه من تعرض للغزو والتنكيل والتهجير, وثالثها معرفة جذوره المسيحية الأصلية ودوره الرائد في نشر الديانة المسيحية، والوصول في ضوء ذلك إلى المنطق القائل برفض التركة الاستعمارية ورفض انخراط الولايات المتحدة في التصرف على الصعيد العالمي كدولة استعمارية.
أي أن المطلوب هو تحويل تلك المعطيات إلى قاعدة متينة لموقف سياسي وثقافي وحضاري يخرج الولايات المتحدة من أفق المنطق الاستعماري أولاً، ومن الخضوع لأهواء اللوبي اليهودي الصهيوني ثانياً.
وقد يبدو تفكير اللوبي الأيرلندي بالتعمق في دراسة هذه الأمور وتطوير دوره على أساسها أمراً بعيد المنال, رغم وجود العديد من مراكز البحوث الأمريكية التي تعكف بالفعل على دراسة هذه القضايا وطرح أفكار جريئة وجديدة بصددها, أي أن التصورات التي تحدثنا عنها ليست غائبة عن الاهتمام والدراسة بشكل كلي، ولكن يبقى أن الدافع من وراء الدراسات هو الإطار الأهم الذي يحدّد الاتجاه, وهل يوضع البحث العلمي التاريخي والديني والثقافي في خدمة السياسة أم يبقى معزولاً عن الممارسة السياسية؟. وهل يقتصر اهتمام اللوبي الأيرلندي في الولايات المتحدة مقتصراً على مصالح الأمريكيين ذوي الأصل الأمريكي أو رعاية مصالح الوطن الأم أيرلندا، أم يتجاوز ذلك إلى آفاق اهتمام جديدة؟.
يمكننا القول بأن اليهود الصهاينة يتصرفون في الواقع على أساس التحسب من النتائج التي يمكن أن يتوصل إليها اللوبي الأيرلندي وغيره من الجماعات ذات الأصول السلتية في أميركا, بينما يبدي الجانب العربي تجاهلاً كلياً لهذا الموضوع, بل يعاني جهلاً كلياً أو شبه كلي حول ما يتعلق به من معطيات، ومن يعود إلى الأبحاث المطروحة على الإنترنت لا بد وأن تلفت انتباهه تلك المحاولات اليهودية الكثيرة لتزوير تاريخ السلت ومعتقداتهم الدينية.
ولكن ما هو أهم في هذا السياق يتمثل في المحاولة اليهودية لادّعاء وجود قاسم مشترك, بل وحدة حال, بل انتماء مشترك لكل من اليهود والسلت!.
ويجري ذلك من خلال محاولة لوي ذراع الحقيقة بكل ما يمكن استثماره من الأكاذيب التي تستغل التشابه اللفظي في بعض الأسماء, أو التشابه فيما يتعلق بالمعتقدات، ومن المؤكد أن غاية اليهود الصهاينة من الذهاب في هذا الاتجاه القائم على الخداع والتضليل بصدد السلت وتاريخهم وديانتهم لا يتمثل دافعه الأساسي في التأثير على سياسات دول فيها نسبة عالية من السكان ذوي الأصول السلتية مثل فرنسا وبلجيكا وأسبانيا والبرتغال وبريطانيا وغيرها أو حتى تتشكل كلياً من سكان من أصل سلتي مثل أيرلندا, وإنما تتمثل هذه الغاية في التأثير على اللوبي الأيرلندي في الولايات المتحدة باعتبار أنه حتى هذه اللحظة هو اللوبي الوحيد الذي يملك من القوة ما يمكنه من إنهاء السيطرة اليهودية على الإدارة الأمريكية إذا تبنى مثل هذا الهدف، وإن المسألة هنا بالنسبة لهذا اللوبي هي مسألة موقف سياسي يتم الإجماع عليه في داخله، لكن الحاصل حتى الآن هو أن العديد من الشيوخ الأمريكيين المساندين للصهيونية هم من أعضاء هذا اللوبي أيضاً.
لن نشغل أنفسنا هنا بتقديم الدلائل والمؤشرات على معطيات تاريخية تثبت بأن اليهود حلوا محل السلت في وطنهم القديم, وغالباً من خلال استغلال غزاة آخرين, لقد حدث هذا الأمر في جزء من فلسطين مثلما حدث في جزء من جزيرة العرب, أي أن العلاقة بين الطرفين بمنطق اليهود القائم على استغلال التاريخ القديم كانت علاقة عدائية, وأن الجانب اليهودي فيها كان المعتدي.
فهذا البعد التاريخي يمكن أن يشكل جزءاً من الوعي, لكن ما يوجب مواجهة اللوبي اليهودي الصهيوني في الولايات المتحدة بالنسبة لكل المواطنين الأمريكيين, ومهما كانت أصولهم الإثنية أو معتقداتهم الدينية, إنما هي السياسة العدوانية الاستعمارية اللاأخلاقية التي باتت تسيطر على الإدارات الأمريكية، والتي بات جميع الناس في العالم يعلمون أنها سياسة قائمة على الكذب.
وحين نقول إنها قائمة على الكذب, فإن السؤال الذي يطرحه كثير من الناس في هذا العالم هو: ما حاجة دولة عظمى مثل الولايات المتحدة إلى الكذب؟. وما الذي يجعلها توغل في هذا الاتجاه وكأنه لا مندوحة لها عن ممارسة الكذب؟.
إن الدولة الصغيرة إذا مارست الكذب، فقد يفسّر سلوكها بأنه محاولة للتهرب من عقوبة على ذنب اقترفته وأما الدولة التي تعتبر نفسها الأعظم في العالم فإن ممارستها للكذب، لا يوجد له تبرير البتة سوى هيمنة اليهود الصهاينة على سياستها، وإن ممارسة دولة ما مثل الولايات المتحدة للكذب تدلّ على ثلاثة أمور متلازمة:
الأول: اختلاق مبرر لسلوكها العدواني, حيث أنها لا تجد حجة لتبرير العدوان, فتلجأ إلى الكذب, فتتخذ من أكذوبتها حجة أو ذريعة، ومفهوم هنا أنها إذا فعلت ذلك، فهي تفعله لتبرير سلوكها العدواني أمام دول العالم الأخرى, أي أمام الرأي العام العالمي.
الثاني: تريد هذه الدولة أن تخدع الرأي العام في بلدها وأن تضلله بهدف تبرير سلوكها العدواني أمامه. فإذا أقدمت الإدارة الأمريكية على ممارسة الكذب لتبرير العدوان فهذا يعني أنها معنية بخداع وتضليل الرأي العام الأميركي, رغم الحقيقة القائلة بأن هذا الرأي العام يبدو مهمّشاً كلياً فيما يتصل بالسياسات الخارجية للولايات المتحدة، لكن هذا التضليل يظل جزءاً من المنافسة بين الحزبين الرئيسيين الجمهوري والديمقراطي، وهنا يصير التضليل والخداع المتعلق بالسلوك في الخارج جزءاً من اللعبة السياسية في الداخل الأميركي.
والثالث: إن الولايات المتحدة, ومن خلال الكذب والتضليل, تسعى إلى إيجاد أدوات وركائز خارجية لسياستها العدوانية. وهذا ما تسميه مثلاً في حالة العدوان على سورية بالتحالف الدولي، لكن لهذا المسعى أيضاً بعدٌ آخر بعد أن صار الإرهابيون التكفيريون أداة رئيسية من أدوات العدوان الأميركي على الآخرين، فالولايات المتحدة تفترض أن أكاذيبها يمكن أن تؤثر ولو على شريحة صغيرة من شرائح المجتمعات المستهدفة، وهذا التأثير المشفوع بالمال سواء دفعته هي أو دفعته الأنظمة العميلة لها، من شأنه أن يمكنها من تجنيد العصابات الإرهابية التي تستغلها في العدوان، ثم إن هذا الكذب سيكون وسيلة من وسائل تضليل الرأي العام العالمي سواء في البلدان المستهدفة أو البلدان الأخرى.
وهكذا فقد صار الكذب بالنسبة لأمريكا جزءاً من منظومة اللعب، لكن إذا سلمنا بالحقيقة القائلة بأن “حبل الكذب قصير” فإن انكشاف الكذب الأميركي أمام الناس مرة بعد مرة من شأنه أن يقود إلى السقوط الأخلاقي لأميركا في نظرهم، وعندئذٍ سيتساءل الكل: ما الذي تربحه قوة عظمى إذا سقطت أخلاقياً في نظر الناس؟.
في الواقع أن السقوط الأخلاقي لأميركا يعني أن القوة العظمى تحوّلت إلى قوة غاشمة ضالة ومضللة، وهذا يحفز قطاعات واسعة من البشر على مقاومتها، ولعل هذا ما يفسّر كيف أن الاعتداءات الأمريكية غالباً ما تنتهي بالهزائم، وبالتالي, فإن صورة القوة العظمى تتآكل وتنهار حتى في أنظار الأمريكيين أنفسهم الذين يكتشفون أن أكاذيب حكامهم لتبرير الاعتداءات إنما تسيء إلى وجه أميركا في نظر الآخرين.
وحين نقول “في وجه الآخرين”: إنه علينا أن نتذكر ما قلناه بداية من أن الشعب الأميركي يتكون من خليط بشري يمثل جميع هؤلاء الآخرين دون استثناء، وكأن أميركا في نهاية المطاف ستنتهي بسبب منطق الكذب هذه إلى دولة المنبوذين في نظر الآخرين!.
حين نضع كل هذه المعطيات في الاعتبار ونقيّم خطوة البيت الأبيض في تكذيب نتنياهو رسمياً, ومطالبته بالاعتراف بأنه كاذب وبشكل رسمي أيضاً, سنكتشف على الأقل أن الإدارة الأمريكية, حتى وإن لم تتخل عن منطق الكذب, إلا أنها لا تقبل بأن يكذب الآخرون على لسانها حتى ولو كان من مارس هذه اللعبة هو بنيامين نتنياهو.
كاتب وباحث فلسطيني