ثقافةصحيفة البعث

بين العصر والمغرب

كانت غايته الوحيدة جعل المكان نظيفاً.. تجميل بقعة ما من هذا البلد الأمين.. يعمل بصمت.. يضحك بصمت.. يبكي بصمت.. ينام، يفيق.. يصنع حياة ممكنة في عز هذا الواقع العصيب أيضا بصمت..!
بصوت يشبه كل شيء إلا صوت البشر ناداه أحدهم من على شرفة كبريائه (إذا بتحطها هون رح شرشحك ولاااا عم تفهم..)
صمت وكل ما حوله صمت معه حتى أطفال الحي عطلوا مشاريع ألعابهم تضامناً واحتراماً واحتجاجاً على ما سمعوه بحق ذلك الرجل النشيط..
وقف وذهول العالم في عينيه، وبنظرة ما أنا فاعل تسمر في مكانه وكأنه يريد أن يقول لي شيئا ولا يريد بذات الوقت، وبقوة لا حول ولا قوة إلا بالله قام بسحبها إلى الأمام قليلاً وركنها بجانب البناء الآخر، وإذ بصوت آخر لا يقل قباحة عن الأول أجزم بذلك حيث هدر قائلا: (ولك شيلها من هون أحسن ما قوصك هااااا..)
أوميت له بأن انتظر قليلاً ولا تجزع (شو الدنيا سايبة شو يقوصوك)..! هز رأسه مبتسماً وكأنه يقول لي كرامة للطفك فقط سأسكت وهمّ ليسحبها ويركنها بغير مكان مستعيناً على الشقى بالله علّه يتفادى الرصاص الخلّبي لأشباه الرجال، وما إن ركنها حتى أتاه صوت ثالث كان وديعاً نوعاً ما، لكن رائحة البارود فاحت منه وبقوة في كل أرجاء المكان حيث قال: (حبيب كرجها من هون أحسن ما خردقها فهمت ولا بجي فهمك..)
اسود وجهه وهو كظيم وبقلّة حيلة واضحة لملم همه وخذلانه وهو من أي أذى براء.. لم يعد يدري على أي أرض يقف، هل هو في شارع من شوارع بلده يقوم بعمله الطبيعي والفخور به بقدر حبه وفخره بوطنه الذي يخدمه بقلبه وروحه إن لزم الأمر.؟..أم هو على جبهة افتراضية وجهاً لوجه مع العدو لغزارة النيران التي وُعد بها خلال عشر دقائق؟ وسألني هل أنا عدو أم صديق بإحدى نظراته التي كسرت ظهر ضحكتي المفقودة منذ قهر ونيف.. لا أدري لما شعرت بتلك اللحظة بأنني السبب بكل ظلم وقع على تلك الأرض من أيام قابيل وهابيل..!
ناديته لا تخاف لا تحزن أرجوك.. (شو الدنيا سايبة)…؟!
أجابني (عندي ولاد وأنت بتعرفي شو بعني ولاد يربوا بلا أب)
نعم ياست.. ااااي نعم الدنيا سايبة وإن كنت لا تعرفين ذلك فأنا أعرفه وأخبره جيداً، وأخذ يدفع بحاوية القمامة بكل ما أوتي من حب لهذا البلد ولهذا الشعب العظيم، وبانفجار صوتي صرخ قائلاً: والله سأبقى أدفع بهذه الحاوية التي حوت في جوفها كل قذاراتنا ولم تشتك يوماً كما نحن نشتكي مما خلفناه بكامل إرادتنا من فضلات بعدة أشكال، وبأكثر من طريقة حيث تفوقنا بذلك على عالم الحيوان.. سأدفع بها حتى أصل إلى البحر فأرمي بها وبنفسي هناك، أو حتى يظهر لي أحدهم ويتعهد لي بسلامتي وسلامتها.
والله يا ست أنا لم أزعج نملة على هذه الأرض فلماذا كل هذا الأذى والإزعاج..؟! كل الوجوه الحاضرة بدت بائسة كأن الجميع يدركون أن هناك من يخدعنا ومن يظلمنا ومن يرسم أقدارنا السيئة ومتفقة على ذلك دونما أي اتفاق..!
هذا ما حدث ويحدث وسيحدث دائما بكل الأوقات.. لكنه اليوم للصدفة كان بين العصر والمغرب.

لينا أحمد نبيعة