ثقافةصحيفة البعث

في حوار حول تجربته الإبداعية والحياتية.. عبد الكريم يونس: الشعر لم يعد السيد الأول.. لكنه سيبقى سيداً ضمن الأشكال الأدبية الحديثة

 

“أنا إنسان عادي أعيش حياتي المهنية والعائلية والاجتماعية بكل بساطة وبكل تفاهم. أحاول أن أتعايش مع ظروف الحياة” بهذه العبارات عرّف الشاعر عبد الكريم يونس عن نفسه في بداية حواري معه للتعرف أكثر على تجربته الإبداعية والحياتية.
شاعرنا كما يبدو في شعره يعبر عن أفكاره وقناعاته ببساطة وعفوية بعيداً عن كل تعقيد، متجاوزاً تقليدية النظم الشعري، متمرداً على اللغة، يجسد لنا حلمه بحياة تحفل بقيم ومثل تتسامى بروحانيتها عن كل ما هو مادي، من خلال استعراضه لحالة الصدق مع ذاته واستيائه من حاضره الذي يفتقد للمحبة والإلفة بعد أن طغت المادة على كل شيء، فيلجأ إلى روحه يغزل أجمل القصائد يهديها لكل الذين ولدوا في زمن الخيبة، ويدعوهم للانطلاق إلى الأفق الرحب حيث ينتصر الحب على الموت المفاجئ فتشرق المحبة في كل مكان.
ولأننا نشأنا على القصيدة، تربينا عليها شفوياً، فنحن نسمع الشعر بشكل يومي حتى أصبح جزءاً من حياتنا، وكخبزنا اليومي، وبقيت التنشئة الشعرية هي الركيزة الأساسية، فالشعر يحتاج دائما إلى التأمل، وإلى عالم هادئ ورومانسي، والابتعاد عن الصخب حتى تظهر الانفعالات الداخلية، ويبوح بها الإنسان بشكل قصيدة وهذا كان حال شاعرنا الذي بدأ بوحه الشعري من ينبوع الحب الأول الذي شرب منه مبكراً، فيقول: “كنت آخذ من قصائد شعراء الغزل لأبث لوعج عشقي لحبيبتي الأولى، وبدأت الكتابة بمحاولات بسيطة وخجولة إلى أن تمكنت من قواعد اللغة وبحور الشعر، فكانت انطلاقتي مع أول قصيدة وكان عنوانها (ابنة الجيران).

توهج اللحظة الشعرية
واللحظة الشعرية في المكان، اللحظة الشعرية بين إنسان وإنسان، هي الشعر، وكثير من اللحظات التي تمر خاطفة قبل أن ندركها تحكمها الشعرية، والشاعر عبد الكريم منذ بدأ مشواره الشعري وحتى الآن لم يصل إلى تعريف دقيق للشعر، لكنه يصفه بصورة تحمل الكثير من المعاني والصور البلاغية إذ يقول: “هو حالة تتلبسني في لحظة انعتاق اللاوعي من مكمنه ليطفو على السطح ويحلّق بي في فضاءات بعيداً عما يعيشه البشر، مثله كمثل نوبات الجنون التي تأتي فجأة لمن يعاني مرض الجنون اللاإرادي.. الشعر مقدرة على التعبير بطرق تختلف عن سواها مما يعبر عنه الإنسان غير الشاعر.. فيها الخيال والصور والتشبيه الذي يعطي المشهد جمالية موسيقية ولغوية وعمقاً لا يقدر عليها غير الشاعر”..
ويستشهد الشاعر هنا بتعريف أرسطو للشعر بأنه: (أسمى من الفيلسوف، فالفيلسوف يريد أن يهدي الناس إلى الخير، بينما الشاعر يفعل ما يفعله الفيلسوف، فالشاعر يتأمل حياة الناس ثم يصورها من البداية إلى النهاية ويعرضها على الجمهور، ويكون الشاعر مرشداً وموجهاً، والشعر كما ينبغي أن يكون كذلك مستمراً لخدمة المجتمع، وبالتالي فالمتلقي يرفض أن يكون بخيلاً أو قاتلاً ويحاول السمو إلى الأعلى، لأن المرسل يصور مثلاً صورة البخيل صورة بشعة وكريهة).‏
ولأن للثقافة دورها في رفد أي تجربة إبداعية فمن دونها لا يمكن للإنسان أن يطور إبداعه ويصل للآخر الذي يتشارك معه هواجسه وأفكاره، إلا أن دورها لدى شاعرنا لم يقتصر على صقل تجربته الشعرية وحسب وإنما كانت رافداً لعلاقته مع كل شيء في الحياة، وعن القراءات أو المناهل الثقافية التي جذبته لتكون ينبوعاً آخر لتجربته، ومراحل تطور هذه التجربة تحدث يونس:
<< لاشك أن الثقافة لها الدور الأكبر في تكوين ملكة الشعر عند الشاعر وجعلها أعمق وأسع مجالاً من الشاعر غير المثقف.. أما بالنسبة إلى قراءاتي؛ فقد قرأت في بداياتي لنزار قباني حتى كدت أحفظ معظم أشعاره.. وفيما بعد تعلقت وأحببت شعر المتصوفة، وعلى وجه الخصوص ابن الفارض وتجليات جلال الدين الرومي الفلسفية العميقة.. بعد ذلك وحسب دراستي للأدب العربي امتدت قراءاتي لتشمل العصر الجاهلي والأموي وما تلاهما، وصولاً إلى شعراء العصر الحديث.. فتأثرت بشعر أبي تمام والمتنبي والجواهري وبدر شاكر السياب وشوقي.. الخ.

تجدد القصيدة
تجارب إنسانية كثيرة تتماهى مع تجربته، حالات تنزع في مضمونها للحرية، حالات فرحها ينضح بمعاني الحزن، وهنا يخطر السؤال عن التكنيك الذي يوظفه الشاعر في قصيدته ليجعل قارئه متجدداً دائماً فيجيب:
<< بدايةً أنا من الذين يكتبون بطريقة (السهل الممتنع) بعيداً عن الكلمات المعجمية والرمزية.. أريد لقصيدتي أن تصل إلى جميع شرائح المجتمع ليقرأها الطبيب والمهندس والمحامي والعامل والموظف.. أما تساؤلك عن التكنيك؛ فأنا لا أتقصد وضع خطة معينة لقصيدتي، هي تأتي عفو الخاطر نتيجة تداعيات شتى من خلال مشاهداتي ومتابعتي لأحوال المجتمع الذي أعيش فيه.. كتبت في الغزل كثيراً.. وكتبت عن الظلم الذي تعانيه المرأة في مجتمعاتنا.. وكتبت عن غربتي عن الوطن، وعن الشوق والحنين إلى مرابع الطفولة والشباب.. وعن معاناة الناس في السعي إلى العيش الكريم.. هذه الأمور مجتمعة- وغيرها- هي التي تجذب القارئ إلى متابعة الشعر بشكل عام.
أيضاً هناك من يرى في الشاعر حالة خلاص أو نبياً يؤمن أن الشعر قادر على تغيير وجه التاريخ وتخليص البشرية من هزائمها.. وأن المهمة الحقيقية للشعر من وجهة نظرهم أن يستمر بتبشيرنا بالقدرة على الخلاص، والتجدد والولادة الجديدة في كل زمان ومكان، والذي يختلف أحيانا هو طريقة حمل القصيدة لهذه الوظيفة، وفيما إذا كانت قناعته تتطابق مع هذا الكلام، ومدى إيمانه بدور القصيدة في زمن أصبحت فيه الثقافة سقط متاع عند الكثيرين تحدث الشاعر عبد الكريم:
<< كان الشاعر حالة خلاص فيما سبق من زمننا هذا.. أما الآن؛ فهموم الحياة والحروب وعدم الاستقرار جعلت المواطن- في بعض البلدان العربية- لا يقرأ شعراً ولا يسمع عن فلان من الشعراء.. لقد كان الشاعر يشبه الأنبياء في مقدرته على تغيير وجه التاريخ وتخليص البشرية من هزائمها، عندما كان إذا وقف على المنبر وقال قصيدةً ثار الناس وخرجوا يتداولونها إلى أن تصل إلى أقصى بقعة من البلاد.. أما الآن؛ فإذا وقفت أنا أو أي شاعر وألقيت قصيدة عن التآخي ونبذ العنف والتعايش مع الآخر بسلام، فقد لا يتعاطف مع كلماتي إلا النزر القليل من الناس.. ويمكن القول إن الشعر لم يعد السيد الأول كما كان تاريخياً، لكنه سيبقى سيداً ضمن مجموعة الأشكال الأدبية الحديثة.. والدليل على ذلك؛ العدد الكبير من جيل الشباب الذي يكتب الشعر، لكن الشعر مثله مثل الفنون الأخرى يحتاج إلى مؤسسات ترعاه، وإلى مجتمع لا تصرفه الهموم اليومية عن القراءة الثقافية، ومهما يكن الحال فإن الشعر لا يمكن له أن يتقبل الهزيمة أمام الفنون الأخرى، فنراه وإن تراجع قليلاً، إلا أنه يتسلل إلى الفنون الأخرى بروحيته، ويغزوها بمفاهيمه، فنصف لوحة بالشعرية، أو نقول عن فيلم بأنه قصيدة، وجميع هذه الأوصاف في معرض المديح بالطبع.. هكذا هو واقع الشعر في هذا الزمن..
< وكيف تتقاطع شخصية عبد الكريم الإنسان مع شخصيته كشاعر؟
<< تتقاطع في كثير من الحالات.. فعلى سبيل المثال، عندما أكتب عن مظالم المرأة لا يمكنني أن أكون ظالماً معها إطلاقاً.. إحساسي ومشاعري وعاطفتي كشاعر تنعكس بشكل كبير على شخصية عبد الكريم مع عائلته وأصدقائه وزملائه والمجتمع بشكل عام.
< وعن الدور الذي تلعبه المسابقات والمهرجانات في صقل تجربة المبدع، وخاصة أن للشاعر عدة مشاركات في المسابقات والمهرجانات الشعرية يقول:
<< هذه المشاركات لها فوائد جمة بالنسبة إلى الشاعر، فيها تتسع معارفه وتواصله مع شعراء كثر لم يكن ليعرفهم لولا تلك المشاركات، وبالتالي هو نفسه يصبح معروفاً على الساحة الثقافية ويصبح له اسماً بين الشعراء العرب.. فعندما تكتب عني بعض الصحف حول إحدى مشاركاتي فلاشك أن هذه الصحيفة أو تلك سيقرؤها مئات الناس.. وعندما أظهر على إحدى الفضائيات فهناك الكثير من المتابعين سيعرفون من هو الشاعر عبد الكريم يونس.. وهذه الأمور مجتمعة تعدّ حافزاً عظيماً لاستمرارية الشاعر واجتهاده لصقل موهبته وجعلها أفضل مما سبق.
القصيدة والاغتراب
< ولكن ماذا عن حالة الاغتراب والقلق التي نقرؤها في شعرك علماً أن من يتحدث إليك يرى فيك إنساناً متفائلاً، ألم ينقذك حوارك مع القصيدة من اغترابك وقلقك هذا؟
<< هذا السؤال الذي أخشاه وأحسب له ألف حساب… كتبت مرةً:
مـاذا أخـطُّ وأرســـــمُ وجـوارحــي تـتـألــمُ
أسـكـتُّ أقلامَ الهـوى وجـعـلـتُـهـا تـتـكـتـمُ
وعـزفـتُ عـن وصـفِ الـحِسـانِ ولـم أعـدْ أتـرنّـمُ
فالعـيـبُ أن أصـفَ الـجـمــالَ وموطـنـي يـتـهـدّمُ
قد ترينني متشائماً جداً في بعض أشعاري.. وفي بعضها الآخر أعود فيحدوني التفاؤل والأمل إلى كتابة قصيدة أرى من خلالها أن وطناً بحجم بلدي تاريخاً وعراقة ومجداً لا بد وأن يستطيع النهوض من كبوته ويعود إلى سابق عهده.. وفي هذا المعنى أقول مخاطباً الشام:
الـمــجــدُ عــنــوانٌ بــبــابِــكِ.. حــدَّثــتْ
عـنـه الـبـطـولـةُ والـمـفـاخــرُ أحْــقُــبــا
وبـقـاســيـونَ ســمَـتْ شــــوامـخُ عِـزَّةٍ
فـســمـا بـهــا نـجـمــاً يـعـانــقُ كـوكـبـا
فـإذا ســـقـتـكِ الـنـائـبــاتُ كـؤوسَــــهـا
وأتـتـكِ تـنـشـبُ فـي جـِنـانِــكِ مِـخْـلَـبـا
لا تـجــزعــي مـمــا يـجــورُ بــه الـــرَّدى
فـالـزرعُ مـهـمـا جـفَّ يَـرجِـعُ مُـعـشِـــبـا
وإذا كـبــا فـي الـســـاحِ مُــهْــرُكِ كـبـوةً
لا بــدَّ يـنـهـضُ شـــامــخــاً مـهمـا كــبــا

حضور الزمن
< أيضاً نقرأ في قصيدتك حضوراً للزمن بشكل مكثف، لأي زمن تكتب، هل تكتب لزمن مضى أم للزمن الحاضر أم للمستقبل، أم لزمن متخيل تنسج ملامحه في مخيلتك؟
<< الزمن عندي هو ما مضى.. لكنني أراه يعود مشرقاً في المستقبل وكأنه لم يمض عليه وقت طويل.. أو أنني في حلم عميق سأصحو منه يوماً ما.. قد يكون زمناً متخيلاً ولكني متفائل بأن أعيشه على الرغم من أن سنوات الغربة سرقت معظم سنوات عمري.
وللمكان حضوره وتأثيره في قصيدة الشاعر يونس، فهو يحمل الرائحة الأولى دائماً وهذا ما نلمسه في نتاجه كله، هو لا يقتصر على الجغرافيا، ولا أمتاراً مربعة، بل كما نراه هو لحظة الالتقاء بين الذات والمكان، والشاعر يونس تنقل في حياته بين أمكنة عدة، لكن كيف ترجم علاقته بالمكان سواء على صعيد القصيدة أو على الصعيد الشخصي يجيب:
<< أحاول دائماً أن أتأقلم مع المكان والناس لتستمر عجلة الحياة.. لكن لم يكن هناك مكان عشت فيه استطاع أن يمحو حبي لبلدي والحنين والشوق إليه.. وعلى صعيد القصيدة فقد كان للتنقل والاغتراب أن فتحا لقصيدتي أبواباً ما كنت لأعرفها أو أدخلها لولا ذلك.. ما كنت أظن بأنني سأكتب قصيدة شوق للغوطة مثلاً أو لقلعة حلب.. الغربة أنجبت لدي قصائد لم تكن في الحسبان..
< وطقس الكتابة عندك هل يحمل خصوصية ما؟ وما الحكمة التي يمكن أن تقدمها خلاصة لتجربتك؟
<< نعم طقس الكتابة له خصوصية.. وخصوصيته تكمن في الهدوء والعزلة بعيداً عن الضوضاء.. والحكمة التي تقدمها خلاصة تجربتي أنه ليس كل من أراد أن يصبح شاعراً يمكنه ذلك.. إذا لم يكن الشاعر ذا موهبة ومتمكناً من أدواته فليترك الساحة لمن هم أهل لها.. هؤلاء الذين اتجهوا إلى قصيدة النثر التي أعفتهم من الوزن والقافية فاستسهلوا ركوب الموجة وراحوا يخطون كلاماً أشبه بطلاسم العرافين بحجة الحداثة وما بعد الحداثة، ظنوا بأنهم بهذا النمط من الكتابة يمكن أن يصبحوا بحجم أدونيس أو أنسي الحاج أو الماغوط أو سواهم، مع أنهم لم يتجاوزا عتبة أي صرح من تلك الصروح..

وقفة
تساؤلات كثيرة تتداخل مع بعضها في تناقض مابين أسئلة تبحث عن الاستمرار، وإجابات تبحث عن التجديد بلا قيود، فالشعر يخرج من المخيلة ليتحول إلى فكرة تصب في صلب الرغبة، والحزن والألم لدى شاعرنا هما القيمة الحقيقية لوجود أشياء أو كائنات تتنفس من مجرد التفكير فيها، فهو يحرض على التمرد والتحرر من كل التبعات.. ذلك التمرد الذي يتجسد بالكلمة التي تزهر لتعطي ثمراً، كونها السلاح الذي يخترق الضمائر ويرسخ مقومات التعامل الذاتي الصادق مع الحياة، فالحقيقة ليست مطلقة بل مرتبطة بتغير الظروف التي تحكمها، وهذا ما يمكن للقارئ أن يتوقف عنده في تجربة الشاعر عبد الكريم يونس الذي أتمنى أن أكون في هذا الحوار قد وقفت على بعض تفاصيل هذه التجربة التي أتمنى أن تبقى متوهجة بالتجدد.

بطاقة تعريف
عبد الكريم يونس شاعر سوري من مواليد حلب، عاش في دمشق منذ كان عمره تسع سنوات، درس الأدب العربي في جامعة دمشق، بدأ عمله في الصحافة منذ عام 1999 في دار الصدى كمحرر ومدقق لغوي، في رصيده ديوان مطبوع واحد هو: “أنثى الخيال”، قدم العديد من الأماسي الشعرية، وشارك في ديوان “محمد الدرة” الذي صدر عن مؤسسة عبد العزيز البابطين في الكويت، وكذلك في ديوان “القدس في عيون الشعراء العرب” الصادر عن اتحاد كتاب الإمارات.
حوار: سلوى عباس