الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

ماأشبه هذا بذاك

عبد الكريم النّاعم
– الذين ينظرون إلى المجريات في الحياة، ويتعمّقون في تحليلها، وفي تقليب وجوهها يخرجون غالباً بنتائج عالية على مستوى الإدراك، وربّما ساعدهم هذا على قياس الأمور ببعضها، فتكون حصيلة نظرهم ذخيرة لهم في مدارج الحياة، وربّما استفاد منهم من هو أقلّ تجربة، غير أنّ ذلك لا يأتي دون أن ندفع أثماناً مناسبة، تلك هي معادلة الحياة، لاشيء يأتي بالمجّان، إلاّ إذا تدخّلت أقدار غامضة، ما يزال بعضها عصيّا على التحليل العلمي، إلاّ بإحالته إلى ما نسمّيه المصادفات، وهي متمرّدة على قوانين العلم الموجود بين أيدينا، كأن تربح الجائزة الكبرى في اليانصيب وأنت منتوف.
– نزل من سيارته وهو يضع نظّارة شمسيّة في وقت لا شمس فيه، واقترب من صاحب المكتب، وسلّم عليه بشيء من إضفاء الهيبة والجديّة وقال له:
– “أبحث عن غرفتين لا أكثر، جيّدتي البناء والكسوة”.
– طلبك لديّ، ولكنّ الأسعار اليوم مرتفعة في كلّ شيء”
– “كم ثمنهما”؟
– “أربعون مليون”
– وماذا تعني الأربعون مليونا؟!” وذهبا لرؤية المكان، فارتاح لما شاهد، فنزع النّظّارة، وسأله:
– “متى نستطيع كتابة العقد”؟
– “ساعة الدّفع”.
– “سأغيب ربع ساعة وأعود”.
وحين أدار ظهره ومشى وقف صاحب المكتب، وقد التمع في ذهنه شيء محيّر، وليتأكّد من نفسه سأل جاره السمّان: “هذا الذي كان يقف معي قبل قليل يُشبه أبو مخْطة”.
ضحك وقال: “إنّه هو، هو الآن صاحب طنّة ورنّة، ولا يتكلّم إلاّ بالملايين، وأنت تعلم وضعهم الماديّ من قبل، كانت الحسَنة تجوز عليهم، وكلّ ذلك من وراء التهريب، والاتجار بكلّ ما هو ممنوع.
هذه الحادثة التي سمعتُها ذكرتُها، وذكرت مثيلات لها وأنا أعيد قراءة ما جاء في كتاب “الإمتاع والمؤانسة”، فقد جاء فيه أنّ اضطرابات وشغَبا حدثا في العراق على أثر غزو من جهة الأتراك، روّع أهل الموصل ففرّوا إلى بغداد، واختلط الحابل بالنّابل، فعمّت الفوضى، فعبّر احدهم عن وصف الحالة بما يلي:
“كلّ ما كنّا فيه غريباً بديعا، عجيباً شنيعا، حصل لنا من العيّارين قوّاد، وأشهرهم ابن كَبْرويه، وأبو الدّود، وأبو الذّباب، وأسوَد الزُّبْد، وأبو الأرَضة، وأبو النّوايح، وشُنّت الغارة، واتّصل النّهب، وتوالى الحريق، حتى لم يصل إلينا الماء من دجْلة، أعني الكرْخ، فمن غريب ما جرى أنّ أسوَد الزُّبْد كان عبداً يأوي إلى قنطرة الزُّبْد، ويلتقط النّوى، ويستطعم مَن حضر ذلك المكان بلهو ولعب، وهو عريان ، لا يتوارى إلاّ بخرقة، ولا يُؤبه له، ولا يُبالى به، ومضى على هذا دهر، فلمّا حلّت النّفرة، أعني لمّا وقعت الفتنة، وفشا الهرج والمرج، ورأى هذا الأسود مَن هو أضعف منه قد أخذ السيف، وأعْملَه، طلب سيفاً، وشحذه، ونهب، وأغار، وسلب، وظهَر منه شيطان في مسْك إنسان، وصَبُحَ وجهُه، وعذُب لفظُه، وحسُنَ جسمُه، وعُشِق وعَشق، والأيام تأتي بالغرائب والعجائب”.
لا تعليق….
aaalnaem@gmail.com