دراساتصحيفة البعث

روسيا… ملامح نظام عالمي جديد

 

ترجمة: عناية ناصر
عن موقع فالداي 2/3/2018
ستنطلق الانتخابات الرئاسية دورة سياسية جديدة في روسيا في 18 آذار 2018، إذ تشير استطلاعات الرأي الأخيرة إلى أن الرئيس الحالي بوتين له دور كبير، ولا يترك سوى القليل من الشكوك بشأن نتيجة التصويت، وسيكون من المنطقي التفكير في هذه الحالة بأن السياسة الخارجية للبلد لن تتغير بعد الانتخابات، ومع ذلك فإن روسيا سوف تقترب من مجموعة تقاطعات على الساحة الدولية، والاختيار سيكون صعباً جداً في كل مرة، ويمكن أن تصبح فترة السنوات الست القادمة فترة انتقالية في السياسة الروسية والعالمية.
ستكون نقطة التقاطع الرئيسية عالمياً خياراً بين الحفاظ على النظام العالمي الليبرالي، أو السماح له بالتغيير، أي الانتقال من عالم أحادي القطب إلى عالم متعدد الأقطاب أكثر مرونة ونزاهة وديمقراطية يرتكز على الدور المركزي للأمم المتحدة. هذا النموذج هو الخيار الدبلوماسي الرسمي في روسيا والصين والهند، والعديد من الدول الأخرى، لكن الوضع سيكون أكثر تعقيداً في الاختيار بين عالم “أحادي القطب” المفترض أنه “سيىء” والنظام متعدد الأقطاب “الجيد”.
لقد واجه النظام العالمي الليبرالي أوقاتاً صعبة، وهو يجهد في ظل العديد من المشاكل مثل الحمى السياسية الداخلية في الولايات المتحدة، وعدم قدرتها على الاختيار بين المصالح الوطنية والقيادة العالمية؛ صعوبات التكامل الأوروبي؛ وانهيار النظام الأمني ​​الأوروبي، والتهميش المفتوح لروسيا، وابتعاد تركيا الهادئ، ولكن الخطير جداً، فضلاً عن ضعف الليبرالية والأيديولوجيات العلمانية ضد المذاهب المتطرفة المتصاعدة. هناك العديد من المشاكل الأخرى التي يعاني منها الغرب باعتباره جوهر العالم الحديث، ولكن، ولا واحدة منها حاسمة لبقاء النظام العالمي الليبرالي، إذ يستند استقراره على ركائز أخرى.
تعتمد فعالية النظام العالمي الليبرالي في قدرته على أن يظل نموذجاً جذاباً للعلاقات الدولية لجميع اللاعبين الرئيسيين، فالعلاقات الدولية هي المفاتيح الرئيسية، وعلى النقيض من الرأي واسع الانتشار، فإن العالم الليبرالي ليس مثل نادٍ من الديمقراطيات والكونفدراليات الليبرالية من بلدان “المليار الذهبي”. نعم، الغرب عنصر هام وربما مركزي، ولكن ليست الدول الغربية أو الديمقراطيات الراسخة وحدها التي تشكل هذا النظام العالمي. إن جوهر النظام العالمي الليبرالي هو نظام التفاعل بين الدول. إن طبيعة حكوماتها السياسية ذات أهمية ثانوية، حتى لو بدا هذا الأمر مسيئاً لمؤيدي النظرية الليبرالية للديمقراطية والعلاقات الدولية.
بعد نهاية الحرب الباردة، تحول النظام العالمي الليبرالي إلى نموذج للعلاقات الدولية، وكان جذاباً ومفيداً لجميع الأطراف الفاعلة الكبرى. ويستند هذا النموذج إلى قواعد بسيطة نسبياً في حرية حركة السلع والعمالة ورأس المال، وبطبيعة الحال كانت الولايات المتحدة تشغل قلب هذا النظام، بسبب مواقعها المهيمنة في مجال التمويل والتكنولوجيا الحديثة، والقدرة التنافسية الاقتصادية، لكن لاعبين آخرين استفادوا من هذا النظام أيضاً، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي، اليابان، كوريا الجنوبية، والأهم من ذلك، الهند والصين، ويمكن اعتبار البلدين الأخيرين المستفيدين الرئيسيين من النظام العالمي الليبرالي، وساعد إسهامهما في الاقتصاد العالمي على تحقيق قفزة إنمائية هائلة، وفي الوقت نفسه الحفاظ على الاستقلال السياسي، على عكس حلفاء أمريكا القدامى، تميل الهند (وحتى وقت قريب)، والصين إلى تجنب النزاعات السياسية المباشرة مع الغرب.
لقد استمرت واشنطن في التمتع بهيمنتها العالمية، من خلال إعادة تأكيدها من وقت لآخر بواسطة مهاجمة بلد نام، وفي الوقت نفسه، أصبحت الهند والصين أكثر ثراءً وأقوى اقتصادياً، وعززتا قوتهما دون عوائق. إن الدبلوماسيين الهنود والصينيين صادقون تماماً عندما يصفون العالم متعدد الأقطاب بأنه مستقبل مشرق، وينطبق الشيء نفسه على دبلوماسيي البرازيل وجنوب أفريقيا، وغيرهم من الدبلوماسيين، ومع ذلك، فهي مرتاحة تماماً مع النظام الحالي، الذي يجعلها أكثر ثراءً وأقوى، في حين يترك لها الحرية في السياسة الخارجية.
عندما انهار الاتحاد السوفييتي، انضمت روسيا إلى النظام العالمي الليبرالي، وأصبحت مندمجة في الاقتصاد والتجارة العالميين بسرعة نسبية، وهي لم تحقق النمو الديناميكي للهند أو الصين، ولكنها تعلّمت الاستفادة من دورها كمورد للمواد الخام، مع الحفاظ على اليد الطولى، كانت المناقشات حول الديمقراطية، والامتثال للمعايير الغربية، ساخنة بشكل خاص في روسيا بسبب جوارها مع أوروبا، وروابطها طويلة الأمد مع الغرب، ويلقي الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة باللوم عن كل مشاكلهما تقريباً على روسيا، لن يعترف أي سياسي ذي رأي سديد بأن روسيا واحدة “منا”، ولكن هذا لم يمنع روسيا من بقائها جزءاً من النظام العالمي الليبرالي حتى بعد الأزمة الأوكرانية، والعقوبات الاقتصادية، إن اندماج روسيا في النظام العالمي الليبرالي هو الذي أجاز استخدام العقوبات ضدها فوراً، ولكنه أيضاً هو الذي حد من حرية التصرف بالنسبة لأولئك الذين بدؤوا العقوبات، ومن الأمثلة على ذلك التوصية الأخيرة الصادرة عن وزارة الخزانة الأمريكية بعدم توسيع العقوبات المفروضة على السندات السيادية لروسيا، لأن ذلك سيعود بنتائج عكسية على الولايات المتحدة، والغريب، كما يبدو، أن التكامل الأوثق في الشؤون العالمية هو حماية أفضل لمن يصفهم الغرب بالحكم الاستبدادي من العقوبات.
بيد أن روسيا تعتبر النظام العالمي كتوازن لقوى الدول والتحالفات الفردية، وتربط تحوله مع التراجع المحتمل لقوة الولايات المتحدة، وصعود مراكز القوى الأخرى مثل الصين، هذه الواقعية الدبلوماسية الروسية تبدو معروفة في عالم معولم، والواقع أن النظام العالمي الليبرالي سمح بتعايش أقطاب قوى مختلفة، ومنع الفوضى، وخلق الانطباع بوجود قطبية مستقرة، ومع ذلك، فقد توقف العالم منذ زمن بعيد عن أن يكون أحادي القطب من حيث توازن القوى، لكن الخلافات السياسية تكسر قوقعة النظام العالمي الليبرالي مثل فرخ الطير الذي يخرج من البيضة.
ومن الإشارات المثيرة للانزعاج مؤخراً وجهة النظر الغربية تجاه الصين باعتبارها تشكّل تحدياً وتهديداً، ويعرب الخطاب الرسمي، ووجهات النظر غير الرسمية في الولايات المتحدة، واليابان، والاتحاد الأوروبي، عن القلق إزاء تزايد قوة الصين ونفوذها، وهذا يحدث على خلفية تباين أفكار الصين إزاء التحول المرن للنظام العالمي إلى “مجتمع المصير المشترك”، إذ تشعر الصين بالراحة تماماً عن الوضع الراهن، ولكن واشنطن وعواصم غربية أخرى تشعر بعدم الارتياح، وسيكون من السابق لأوانه الحديث عن مواجهة خطيرة بين الغرب والصين، ولكن يتساءل كثيرون عما سيحدث للنظام العالمي الليبرالي إذا ما تم استبعاد الصين منه بسبب الخلافات السياسية،
إذا حدث ذلك، فإن النظام العالمي الليبرالي سيتوقف عن أن يكون اللُحمة التي تحافظ على الاستقرار النسبي للقوى الرئيسية، وثمة بديل محتمل يتمثّل في وجود عالم ثنائي القطب أو متعدد الأقطاب أكثر فوضى وعدوانية، حيث تطغى المنافسة السياسية على فوائد العولمة، وهذا العالم الجديد لن يكون ديمقراطياً ولا آمناً، إن الترابط بين النظام العالمي الليبرالي، مع كل أوجه الضعف فيه، وبنيته الجديدة القائمة على الصراع مع تحدياته، سيزداد وضوحاً في السنوات القليلة المقبلة،
وسيقدم هذا التقاطع العديد من البدائل لروسيا، فهناك إغراء تسريع ظهور النظام العالمي الجديد، وسيبدو هذا النهج منطقياً، بالنظر إلى أن روسيا أصبحت تقريباً خارجة عن القانون في النظام العالمي الحالي، على الأقل من وجهة نظر الغرب، تدمير النظام العالمي، حيث تضطلع روسيا بدور احتياطي المواد الخام، وتعتبر منبوذة على الرغم من قوتها العسكرية، يمكن أن يعطي روسيا الفرصة لتسهم بدور أكبر في خلق نظام عالمي جديد، ولكن هل ستشعر روسيا بمزيد من النجاح والحماية بشكل أفضل في عالم أكثر فوضى، وخاصة بالمقارنة مع التوجهات العدوانية، والأقوى؟ ومن ناحية أخرى، فإن روسيا لن تكون القوة الوحيدة أو الحاسمة في التحول المستقبلي للعالم، لذلك يجب أن تستعد لأي تحول في الأحداث.