الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

النصوص اللواقح

 

محمد راتب الحلاق

للنصوص الإبداعية حيوات عديدة، وهذا ما كان النقاد العرب القدماء يسمونه السرقات، وما يسميه النقاد المعاصرون التناص، وما سماه (عبد الفتاح كليطو) أحد النقاد المغاربة المعاصرين بالتناسخ، والحياة الجديدة للنص قد تكون واضحة العلاقة مع الحياة الماضية، وقد تكون العلاقة مستترة بحجاب الصنعة والشغل الفني، والحالة الأخيرة تحتاج إلى قارئ عارف ليرد النص الجديد إلى أصوله؟!. وإذا احتاج الناقد إلى العناء والجهد من أجل رد نص ما إلى نص سابق فهذا يدل على جودة النص الجديد، أما إن أصر الناقد على ربط النص الجديد بنصوص سابقة فيصبح حكمه نوعاً من التنطع، وهذا ما نجده مع من تتبع (سرقات المتنبي) في كثير من الحالات، حيث يقول قائلهم: إن المتنبي قد أخذ هذا المعنى من فلان، أو أنه نظر في قول فلان، إلى آخر العبارات التي تحمل الاتهام،‏ وما قلناه عن المتنبي ونصوصه ينطبق على الآخرين.‏ والحقيقة إن التناص ظاهرة طبيعية، نجدها في اللغات كافة، بل إن بعض النقاد ذهب إلى حد القول: إن كل نص هو مسودة لنصوص لاحقة، وإن كل كتابة جديدة إنما هي كتابة فوق كتابة، ولا كتابة من درجة الصفر، هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن المعنى المشترك لا يدخل في مفهوم التناص إلا حين يكون المعنى السابق زمنياً مبتكراً، أي حين اختار له المبدع (السابق زماناً) بنية لغوية لم يسبقه إليها أحد، وابتكر صوراً طريفة وأصيلة لم تخطر ببال معاصريه ولا من سبقهم، فالتناص إذن، لا يكون باستعارة المعاني والموضوعات، وإنما باستعارة الصور والعلاقات اللغوية الخاصة للتعبير عن تلك المعاني، وقد فطن النقاد العرب القدماء إلى هذه الحقيقة حين أخرجوا استعارة المعاني الغفل أو الرديئة من السرقات الأدبية، حيث قال (ابن رشيق في العمدة) ما معناه: إن استعارة المعاني الرديئة (ويقصد المعاني الغشيمة التي تكون عند السابق أقل فنية) لا تدخل في السرقة، لأنها جارية في الطباع؛ الذي يدخل في السرقة المخترع والفريد من المعاني.‏
وغرض هذه المقالة الإشارة إلى نوع من التناص الطريف الذي عرفه الشعر العربي دون غيره، قوامه المعارضة، وإنتاج نصوص جديدة تعترف اعترافاً صريحاً وواضحاً بأنها تنسج على منوال نص سابق، ولأمر ما حظيت نصوص بعينها بفتنة خاصة دفعت الشعراء إلى معارضتها، وأقترح أن تسمى النصوص الأصلية بالنصوص اللواقح، نظراً لأنها الأب الشرعي للنصوص اللاحقة.‏
ومن بين النصوص اللواقح نص (مالك بن الريب المازني) في رثاء نفسه، والغريب في أمر هذا النص أن الناس لا يكادون يعرفون للشاعر نصاً آخر سواه؟!. وإن كنت لست بوارد ذكر من عارض نص (ابن الريب) من الشعراء المحدثين، أو ذكر نماذج من تلك المعارضات والمضاهاة بينها، فلذلك مكان آخر، إلا أنني أجرؤ على الزعم بأن كثيرين من الشعراء قد راودتهم فكرة معارضة هذا النص، والذي لم يعارضه بسبب اختلاف طبيعة نصه وطريقة شغله الفني لجأ إلى التناص معه؟!.‏ وقد أطلق النقاد العرب القدماء على أصحاب النصوص اللواقح اسم الشعراء الفحول، في إشارة إلى فحولة نصوصهم وإلى ما ولدته من نصوص وصور شعرية، وفيها ما بزّ النصوص الآباء، كما هي طبيعة العلاقة بين الآباء والأبناء عند المخلوقات جميعاً؟!!.‏

ratebalhallak4@gmail.com