الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

فوتوكوبي!؟

د. نهلة عيسى

استيقاظي يوم عيد الأم, أصبح وجعي فوق الوجع, لأنه يذكرني أية مأساة هو الصحو بلا أم, خاصة في وطن صار شعبه كاليتيم حديثاً ذا شجون, وخبراً أولاً في نشرات الأخبار, وتفصيلاً مثيراً في حكاية طويلة, نشرت فيها جروحنا على اللوحات الإعلانية, وأصبحت بضائع تشترى: أغاني, وصور نعوات, ودلات قهوة, وخيام عزاء, وخطابات حماسية, وحلفاء وأعداء, وتهديدات دولية باتت ماء غسيل وجوهنا كل صباح!!.

ولكني رغم الوجع, ورغم أني منذ أربع سنوات بلا أمي, أرى في كل عام, عيد الأم نقطة ضوء راكضة وسط اليأس, وأتذكر فيه وسط “الزهايمر” الحرب, كيف أن كل الأمهات رائعات, بهيات, وكيف أنهن نسخ من صورة النبع, وكيف يقلن نفس الكلام في كل بيت, وكيف شتائمهن متشابهة, وشكواهن متطابقة, وكيف يدعين من طرف اللسان على الأبناء ويحقدن على من يقول: آمين؟.

كل الأمهات أميرات, نبيلات, متشابهات, لكنهن عصيات على التعريف والتوصيف, لأنه من الصعب تفسير ما معنى أن يتعايش الحب مع بؤس الواقع, والبارود مع النار, والجرح مع السكين, والتوق مع الخيبة, والغفران الدائم مع العصيان, وخوابي الصبر مع المطارق, والانتظار مع الرحيل, والتفهم مع الغضب, وكيف يكون صمت البحر دائم الصراخ للموانئ البعيدة, وكيف تعاشر النوارس يخوت اللامبالاة, والموجات العالية من غربة الروح في مواجهة النكران!؟.

كل الأمهات قلاع؟ وفي حربنا أساطير حقيقية نسجتها الأمهات, ستروى حتى بعد ألف ألف عام, حيث كان يا ما كان: الزغاريد تحتفي بجثامين بضعة القلب ورصيد العمر, وطائرات زوارنا صارت طائرات إقلاع الأبناء, تجر على الأمهات الخيبة والإحساس المر بعار لم يرتكبن إثمه, هن اللواتي عشن الوطن جثة جثة وشهقة شهقة, وما بغضن ولا كرهن ولا حقدن, بل شعرن بالغضب المتقزز من أولئك الذين أدانوا أمهات من قتلن الأبناء!!.

كل الأمهات في بلادنا بيوت؟ رغم الشمس الساطعة الشر, والشوارع القبور, والولادة رفيقة الاحتضار, والخراب الذي بات تذكرة سفر, ورغم حقيقة أن القاتل في ليل, هو حامل النعش في الصباح, ورغم أن الهجرة تحولت إلى معلقة شعرية شاعرية تجمّل الرحيل, وتشجع الجري على خطوط الطول والعرض, ولو بأوصال مقطعة وكرامات مفتقة, وتجعله تعقلاً وبطولة ورجولة, لتغسل أيادي “فائضي الحنان”: نيرون, ودراكولا, وهتلر, والمركيز دوساد وأحفادهم في هذا الزمان, من نزيف دمائنا!

كل الأمهات حنونات؟ بكين أهل الغوطة من خلف الشاشات, ونسين في لحظات كل الثارات, رغم أن بكاءهن يبدو للوهلة الأولى منتهى الجنون, ولكن أليس منتهى العقل ومنتهى الجنون مترادفان, وأليس رحمة من الرب بالوطن أن أمهاتنا حنونات, رغم أن الخجل لم يمت أحداً ممن خرجوا إلينا من جحور الكراهية, يهتفون باسم وطن كانوا سبباً في دماره, فتحزن قلوب أمهاتنا أن عدسات المصورين تقتات من ذل هؤلاء الخبر, وتستضيف الفاجر الشامت, ليفلسف الخواء والانتظار, وليشرعن الأقنعة الشمعية لعالم لم ير في موتنا وفي ذل بعضنا سوى فرصة لقتل الوطن!!.

كل الأمهات في وطني.. أمي؟ لأن حسرتهن على من هربوا من الموت (على حد زعمهم) تفوق الموت, وأسئلتهن وفي الحضن صور الأبناء الشهداء, عن ماذا يفعلون من خرجوا, وأين ذهبوا, وهل أكلوا, وهل شربوا, وهل كانت السلامة رفيق دربهم؟ صارت أسئلة عار في وجوه من خرجوا, عليهم أن يجيبوا عليها يوماً أمام محكمة الوطن.

كل الأمهات في وطني.. أمي, رغم الصباح الملتبس, ورغم رحيل أمي, التي يبقى وجهها وصوتها في البال خريطة وطن, وصوت عال فرح, يصدح في أذني: الوطن راجع, احجزي لي بالقرب منك في الأمويين يوم الاحتفال بالنصر القريب مطرحاً, وليتها تعلم أن القلب لها مطرح.