ثقافةصحيفة البعث

اعتقـــــال الفصـــــول الأربعـــــة

 

 

يقول “شلوفسكي”: (إنّني لم أعثر بعد على تعريف للقصّة القصيرة) ويجاريه في ذلك أحد أهم كتاب القصّة في العالم العربي “يوسف إدريس بقوله إنّها: (فنّ معقّد إلى الدرجة التي لا أستطيع أنا شخصيّاً بعد هذا العمر في ممارسته أن أعرّفه). وثمّة من قارب التعريف بعموميّة كالأمريكي “إدغار آلن بو” قائلاً: “إنها قصّة تقرأ بجلسةٍ واحدة”، أمّا الإنكليزي “آلان فوستر” فكان سخيّاً بتعريفه، حيث أشار إلى طبيعتها الفنيّة وبعض مكوناتها بالقول: “أساس القصة هو الحكاية والحكاية عبارة عن قصّ أحداث مرتبة في تتابع زمني مع وجود حبكة، والحبكة هي سلسلة من الحوادث التي يقع فيها التأكيد على الأسباب والنتائج”. كذلك ظهر التّفاوت بين النّقاد حول حجم القصّة. منهم من أوصلَه إلى عشرة آلاف كلمة، ومنهم من جعله لا يتعدّى بعض الكلمات، مستشهداً بقصّة الغواتيمالي “أوغستو مونتيروسو” التي احتفى بها النّقّاد: “حين استيقظَ كان الدّيناصور لا يزال هنا”.

العنوان.. التّيمة.. المكوّنات الفنيّة القصصيّة:
“اعتقال الفصول الأربعة” مجموعة قصصيّة لـلقاص السّوري “أ . د. م .علي إبراهيم دريوسي” صادرة عن دار “أرواد للطباعة والنشر، طرطوس”. ولوحة الغلاف للفنّان سموقان 2017. ومراجعة لغويّة للرّوائي المعروف “حيدر حيدر”. تتقاطع منذ البداية مع مقاربات التّعريف السابقة للقصّة الكلاسيكية، بتوصيفها لنفسها بأنها “قصص وحكايات قصيرة”. فدلالة العنوان الأوّليّة، تشي منذ البداية، بتيمته الأساسيّة المهجوسة بمحمولها الاجتماعي المنتصر للفئات المستضعفة، حيثُ تتعانق وتتعالق بحرارة مع جسد النّصوص، صعوداً ونزولاً، بضفائر سردٍ واقعيّ، مطعّم بالتّخييلي، ناقد جريء، ساخر، يصل أحياناً إلى غرائبيّة تشويقيّة كقوله: “اشتريتُ كمبيوتراً بحجم بقرةٍ حلوب” غرائبيّة تستثمر عناصر الواقع لتبني أحدوثتها المدهشة القائمة على كسر توقّع القارئ مثل قصّته الإيروتيكيّة “حين يعانقك الكر” وغيرها. سرد يفضح زيف القيم والموروثات والتّابوات الاجتماعيّة القارّة. وثقافة العنف التي تمارسها السلطة الأسرويّة في البيئات الفقيرة كامتداد لسلطة وثقافة المجتمع القاهرة ذات اللّون والفكر الواحد. يقول السارد عن أمّه “لم تسمحْ لي قبل موتها باللّعب مع الأطفال ولا مع الحيوانات، لا خارج البيت ولا في داخله، لعلّها كانت تعتقد أنّ ما تقوم به هو الأسلوب المثالي للتّربية”. يفتح السّارد “صندوق باندورا” ذاكرته الممتلئة بمخزون الطفولة وشرورها اليانعة، تاركاً لتداعياته حريّة الانثيال، لتتداخل الأحداث والأزمنة والأمكنة ضمن خلطةٍ كيميائيّة، تؤكّد على راهنيّة الحدث وواقعيّته. دون الذّهاب بالتّخييل بعيداً. واقعيّة البؤس الشّديد التي عاشها السّاردُ مشروخَ الرّوح والذّاكرة، في بيئته الفقيرة، يقول: “كان الأولاد في قريته أفقر من الفقراء”. العنوان زمكاني بامتياز، حيث الفصول الأربعة الممثّلة لدورة وجوهر الحياة الطبيعيّة، تبدو فصولاً اجتماعيّة مشلولة الحركة والنّمو. ورهينة لقوى الفساد المستشري، لا العكس، وكذلك الكائنات البشريّة، مغلولة لأعرافها وأيديولوجيّاتها الضيّقة وفكرها الأحادي الذي يلغي الاختلاف، وهذا ما انعكس بدوره على شخصيات السّرد، لتختفي في معطف السّارد، مأزومة مثله، وضحيّة لظرفها الاجتماعي الخانق. هكذا تتحقّق القصة القصيرة وتتجلّى في فعل الكتابة اللّاحق بحضور موازٍ لوجود أحداثها الواقعيّة. هذا الإيحاء هو الذي يقرّبها من عالم المعيش، حيث فعل السرد يقود الأحداث إلى احتمالاتٍ متعدّدة ممكنة التحقّق.
يقول الناقد “محمد برادة” بهذا الصّدد: “القصّة بلغتها وتخيّلها وتجنّسها قادرة على أن تظهر لنا أن ذلك الذي عشناه كان من الممكن أن يكون على غير ما كان عليه”. شخصيّات القصّ تتحرّك في فضاءٍ جغرافي معروف هو البيئة الساحلية السوريّة. ثم تتنقّل تخييليّاً مع ساردها بأناه المهيمنة، إلى بيئةٍ أخرى مغايرة، لتتعدّد الأمكنة الجغرافيّة بشخصيّاتها الواقعيّة والتّخييليّة وثقافتها ورؤاها الخاصّة. هذا التّوظيف للمكان وعناصره، لا يأتي اعتباطيّاً بل يخضع لشروطٍ فنّيّة يضعها الكاتب أمام عينه، منذ رسمه لمخططاته الأوليّة، والتي تحدّد حركة الشّخصيّات والزمن، والحدث الأوّلي، الذي قد يغيب تماماً لصالح أحداثٍ وذكريات قديمة كما في قصّته “لمن هذه الرائحة القادمة..”. لكنّ ساردنا رغم تعدّد أمكنته وأزمنته ظلّ رهين ذكريات بيئية المنشأ، ممزّقاً بين المكان المشتهَى الذي يعيشه في الحاضر، ومكان الولادة المعشّش في خلايا روحه وماضيه. لكنّه لمْ يبقَ أسير مفهوم المكان الأوّل/ الوطن، بالمعنى العاطفي بل تخطّاه إلى معناه الثقافي الذي يرى بكلّ مكان يحترم كفاءة وكرامة وحرّيّة واختلاف الكائن، وطناً له. وقد استبدلَ مفهوم الزمن الفيزيائي، بآخر سيكولوجي كثيف غلّف مجمل بواطن سرده، فمونولوجاته الحالمة عكستْ حساسيّته الخاصّة وسخريته المحبّبة رغم كلّ شيء تجاه مفارقات المعيش. وهذا يتناسب تماماً مع قصديّة السّرد في تعميق إحساس القارئ بالمقروء: “يبتسم السّيد مصطفى ساخراً دون أن يرفع نظارته السوداء عن عينيه رغم حلول العتمة الخفيفة”.
الشخصيّات بدت لصيقة بالواقع سواء بأسمائها الحقيقيّة، أو ألقابها المختلفة حسب موضوع كلّ قصّة، وتنتمي إلى القاع الاجتماعي إلّا ما ندر، وبالرغم من أنّ شخصيّة “أحمد” المطلقة ظلت تلوبُ متقنّعةً بين السّطور، إلّا أنّها مرآة لشخصيّة الكاتب ذاتها الذي اعترف باسمه الحقيقي واسم أخته الصّغرى الأثيرة لديه، في قصّة “كيف سقط كتاب الجغرافيا رمياً بالرصاص”. أمّا اللّغة باعتبارها أداة تواصل وتعبير، فقد اكتفتْ بذلك دون انتباهٍ كبير لوظيفتها الجماليّة. ولم تتعدّد ضمائر السّرد، بل ظلّتْ مغيبة بضمير الأنا، التي استعانت غالباً بـ”المونولوج والتّداعيات” لتعميق تقنيّتها السّرديّة، كما غاص الوصف في التّفاصيل الصّغيرة متسارعاً ومتوازياً مع السّرد، لكأنهما على سباقٍ محموم.ليضفيا على الأسلوب ميزتي الحكائيّة والعفويّة اللّتين توسّلهما الكاتب بخصوصيّةٍ مائزة، قائلاً: (لتكتبَ قصّة قصيرة مثيرة عليكَ فقط أن تنظر من النافذة وتطلق العنان للخيال. أو أن تتسكّع في الشّوارع حتى الثمالة).
أوس أحمد أسعد