الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

حكايات يجب أن تروى!؟

 

د. نهلة عيسى

الكتابة الأسبوعية هي أكثر المهمات بؤساً على وجه الأرض, لأنها أولاً نوع من الفعل القهري, يُجبر العقل فيه على التكلف والتحذلق والاجترار والادعاء, فيما الروح خاوية على عروشها من أي إحساس، وثانياً لأنها تضطرك إلى إثبات وتفسير ما ليس محتاجاً لدلائل وقرائن وتبريرات, لأولئك الذين لايرغبون في معرفة حقائق الأشياء, بقدر ما يرغبون في أن تأتي الحقائق مؤكدة لما يفكرون ويعتنقون, وهو أمر يحول فعل الكتابة, إلى حالة أشبه بصيد التماسيح, الخطر فيها كبير, والصيد دموعه ليست رحمة ولا استرحاماً, بل مجرد مؤشر على سيلان اللعاب, لتكتشف انك أنت المصطاد!.
لكن رغم البؤس, أمارس فعل النزيف الأسبوعي, وأشعر أن ذلك واجب محروس بالأرق عندي, لأن هناك كثيراً من القصص تستحق, خاصة في حربنا المجنونة هذه, ليس فقط الكتابة عنها, بل التواضع والتصاغر أمامها, والتبرك بكتابتها, لأنها حكايات أبرمت مع التاريخ اتفاقاً على الخلود والأبدية, وبايعها العطاء ملكة متوجة على كل عطاء. ولذلك أكتب اليوم عن الناجين من الغوطة الشرقية, مستهدفين, ومخطوفين, ومواطنين مقيمين, وعسكريين مرابطين, بعد حصار وصمود دام ست سنوات, قتلت فيها الجماعات الإرهابية بوحشية لا نظير لها, الرجال والنساء والأطفال, وخطفت إضافة للعسكريين,أكثر من ثلث سكان عدرا العمالية, مفرقين الابن عن أمه, والأخ عن أخته, والزوج عن عائلته, ونهبوا وحرقت وهَجرت من استطاع النجاة بجسده, تاركاً روحه وبضعة منه في تلك البيوت, التي باتت أشبه بقصائد الرثاء, تروي بالقدر المتسع للحكاية عن رحيل محكوم بامتحان هائل على مدى تحمل ثقل الخسارة!.
أكتب عن الناجين من”هدايا” الغوطة الشرقية, وقد كنت أحدهم, أكتب عن وجعهم المكابر على الدمع والتفجع, وعلى فقدان وغياب, يكسرون البشر عادة, ولكنهم في حالتنا تحولوا إلى أعمدة من إصرار ويقين, ارتفعت كخيمة فوق رؤوس الناجين, أن لا بديل عن دماء الشهداء سوى عودة بالنصر قريبة, الى البيوت المجروحة بالموت القسري!.
أكتب عن الناجين في شتاتهم, وعراء روحهم المسور بالغضب, على ملء خليط من وحوش من أهل الدار, ومن عرب وترك وشيشان وايغور, وحثالة حثالة الأرض, حَولوا مهد الرؤوس والأحلام إلى مهد آلام, وجعلوا الدرب إلى البساتين, مدافن عشوائية لجثث شهداء لم يحظوا بوداع أحبتهم, ولم يحظ أحباءهم بشرف دفنهم.
أكتب عن الناجين المباغتين بقدر لا يعمل إلا بشروطه الخاصة القاسية, ورغم ذلك هم عن القدر راضين وصابرين, رغم إيمانهم, بأن خصومة دمائهم غير قابلة للصلح أو السماح والغفران, وبأن غدٍاً قريباً, سيكون موعداً بينهم وبين رؤوس القتلة مصلوبة على مداخل كل مدينة وبلدة وقرية في الوطن, ثأراً لدماء من رحلوا بالغدر, وتكحلوا بالصبر, ولم يباعوا ولم يشتروا!.
أكتب عن الناجين وقلمي محني إجلالاً وكرامة لصمودهم أمام الحصار تلو الحصار, ولمرابطتهم تحت وابل لا ينقطع من القذائف والصواريخ التي تجعل من حرارة الجسد عدواً للحياة, وفي قلبي خشوع لما عانوه وكابدوه وعايشوه من قطعان الهمج والتتار, وحزن لأن العجز شريك قلم والتقصير توءم روح, عن نقل حقيقة ما حدث, وعن كيف كان هؤلاء يحفظون الوطن, ويتلونه بتدفق التفاصيل كما يحفظ التلميذ درسه الأول!؟.
أكتب عمن لا مكان لمكانهم الآن, المنتشرين كالأنهار التي تعرف مصبها وتعشق ضفافها, وولاءها الأول والأخير لينابيعها, حيث الولادة فخر, والموت زوداً عنها تكريم.. أكتب عن الناجين من الموت, وفي القلب والوجدان شهداء كل المجازر البربرية التي استهدفت القابضين على جمر حب الوطن, بداية بالمذبوحين في جسر الشغور, والحولة, ومعان, ومشفى الكندي, ومروراً بالمحروقين في عدرا العمالية, واشتبرق, وختامهم حتى الآن المهجرين من عفرين!. وأعرف أن عفرين لن تكون – للأسف- الختام, فالحرب طويلة, ولكنني وسط الناجين من الغوطة الشرقية, عاينت كيف تعلو الهامات فوق الكرب, وأدركت ماذا تعني شارة النصر وسط بحيرة من شقائق النعمان, وآمنت أن الهزيمة لا يمكن أن تلحق بشعب يهنئ بعضه البعض بالشهادة, ثم يرفع العلم.