الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

عنب دوماني (5)

د. نضال الصالح

السكن العشوائي في دوما يزيد على سبعة وسبعين بالمئة! أعاد مهيار قراءة المعلومة غير مرة، وغير مرة أيضاً كان يسأل نفسه كيف لم يلتفت إلى ذلك طوال ما مضى من عمره فيها، أي قبل أن يغادرها وأسرته إلى ذلك المكان الذي لا يختلف عنها في الصفة نفسها، إلى المزة ستة وثمانين حيث البيوت يتسلّق أحدها الآخر، وحيث الطرقات التي لا يتسع أكثرها عرضاً لمرور عربة صغيرة، وأسلاك الكهرباء المعلّقة على الجدران أشبه بعبث طفل على ورقة بيضاء، و…

أربع سنوات مضت على إقامة مهيار في ذلك المكان ولم يلتفت إلى ذلك، كما لم يكن يلتفت إلى ما يشبهه في مدينته باستثناء صفة واحدة أنّ عشوائيات دوما مبنية على أرض منبسطة بينما مثيلتها في ستة وثمانين تتراصّ فوق غير نتوء جبليّ. وتساءل وهو يقلّب المعلومة على غير وجه: أيّ معنى لعلم التاريخ من دون علم آخر هو الاجتماع؟ ثمّ: ليتني اخترت علم الاجتماع، فأقرأ العوالم السرّية لتلك العشوائيات التي تتشابه فيما بينها في المظهر، ولا بد أنها تختلف فيما بينها في الجوهر. ولم يكد يتم حواره مع نفسه، حتى أضاء هاتفه الجوال باسم ميسون، بل بالصفة التي كان يناديها بها عندما يكونان وحيدين، أي حبّة العنب، ولم يكد يتم ياء الكلمة التي هتف بها قلبه، وصاتت بها حنجرته من دون أن يعرف كيف حدث ذلك، أي كلمة حبيبتي، حتى استسلم الهاتف لسكتة مباغتة، وحتى حاول، غير مرة، الاتصال بميسون التي كانت تسارع إلى تحريك مؤشر الاتصال إلى جهة اليسار، فيستعيد الهاتف السكتة المباغتة التي أصابته أول مرة.

في وقت متأخر من ليل ذلك اليوم، وبينما مهيار لا يتوقف عن محاولة الاتصال بميسون، أضاءت شاشة هاتفه بعبارة “رقم خاص”، وما إنْ مضى بشاهدته نحو اليمين فوق مؤشر الاتصال، حتى باغته صوت أجشّ: “أنت مهيار الدوماني؟”، وحتى أجاب: “نعم، من؟”، فردّ الصوت: “لا تسأل، تسمع فقط”، وتابع: “مأمون عندنا”، وكان يقصد شقيقه الوحيد الذي كان يؤدي خدمته العسكرية في إدارة المركبات، وعندما استجمع مهيار  بعضاً من خفق قلبه الذي كاد يتوقّف كما توقّف هاتف ميسون عن الاستجابة لمحاولات الاتصال بها، وقال: “والمطلوب؟”، ردّ الصوت: “وميسون ستلحق به قريباً”، ثمّ تبع ذلك صمت رجيم لم يبدده سوى صوت رنين هاتفه من جديد، الذي أضاء باسم حبّة العنب، فوجد نفسه وهو يردّد بصوت راعش: “أنت بخير؟”، وميسون تهمس بصوت أكثر ارتعاشاً: “حبيبي”. وعلى الرغم ممّا أضرم جسد مهيار كلّه بالحياة التي كان الصوت الأجش يكاد يجهز عليها، فإنّ ثمّة كلمة واحدة كانت وحدها من معجم اللغة هي التي ترتلها روحه، هي “مأمون”، وروحه نفسها تصخب بغير صورة لشقيقه وهو بين أنياب تلك الضباع التي انشقّت أرض دوما عنها كما ينزّ قيح من جثّة آيلة للتفسّخ، جثّة تلوّث الفضاء حولها بما لا تقوى رئتان على احتمال تلك الرائحة التي… (يتبع).