الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

الحكايات في الزجاجات المعتمة!؟

 

د. نهلة عيسى

أمس, في “دوما” كنت, وبعد تجوال صادم طويل, أمام سجن “التوبة” وأقفاصه الشهيرة المهينة وصلت, وكنت قد تعبت, وعلى كرسي قريب تهاويت, فقيل لي: على كرسي الجلاد جلستِ, فخفت, بجد خفت, وتعوذت من الشيطان الرجيم, وأسرع من البرق كنت على قدمي متسمرة قد وقفت, ويدي تتلمس متكئاً إذ أخشى السقوط, وعيوني تدخل في الظلمة, وكأن الشمس قد خبأت عينيها بأهداب البكاء, فلا أرى, وكل حمام الوطن أغلق أذنيه بالضجيج, فهربت معه إلى الضجيج, آه ما أوجع الحياة حين يكون الرصاص الوسيلة الوحيدة للسلام!.
أمس في “دوما” كنت, أداري الخوف بالبسمة, رغم شحوب البسمة, وأشد قدمي لتطأ مدخل السجن, ولساني يرتل: يا رب أعطني القدرة, منهك قلبي من الطرق على أبواب الموت, وأحس وكأنني عبر باب موتي أمر, وأرى الصمت مفروشاً في الزوايا كالتكايا, يشير إلي بأصبعه نحو الجدران المجللة بآلاف القصص, مختبئة في الظلمة, مستريحة, من الأصابع تصب فوقها نار الأرواح الأسيرة والكسيرة, رحل الذين يكتبون, ولم ترحل القصص, كنت هناك وسط ركام الحكايات أنتحب, وأرد السلام على ظلال من كتبوا, يعبرون من الجدران إلى قلبي, مساء الموت يا قلبي, مساء الراحة يا صحبي!؟.
أمس كنت ضيفة الجدران, وهي تسعل البرودة والقصص, تروي لي سنين العذاب والجوع, ولا تنتظر مني الجواب, فهي تعرف أني لا أملك الجواب, ولذلك تلاحقني بالكلمات, ملايين الكلمات, التي كانت للأسرى بطانية ومدفأة, يجاهدون كي يخفونها عن أعين الجلادين الصدئة, كي لا يموت الأمل, بأن الغد ربما النهاية, موت.. حرية, كلاهما سواء, المهم أن يكون نهاية, تستوي الحياة بالموت عند أمثالنا, نحن الذين نزلنا من أرحام أمهاتنا, يد تسد ثقوب الغدر في ظهرنا, واليد الأخرى على الزناد!.
أمس.. جردتني الجدران من جلدي بنظرة ارتياب, رمتني في البداية بنظرة الكره, فشعرت وكأنني أضرب بالسياط, فتخدرت حواسي, وصرخت من قلبي: والله مُحبة مُوجوعة صديقة, فلانت قسمات الجدران, فبدأت بالقراءة, الأصح بدأت بتلاوة أناشيد العدم, محمد يروي لأمه في سجنه معتذراً: كيف سرق البيض وقايض به السجائر, ويحلف بالله والرسول وجميع الأئمة: انه إن عاد إلى البيت يوماً سيشتري لها كل ما في “جبلة” من بيض, وجابر يُذكر حبيبته بالقبلة الأولى بين قامات السنابل, ثم يعطيها الأمان كي حياته تغادر, لأنه على حد قوله: حتى لو عاد يوماً, فهو مجرد جثة نسي أحد أن يصدر باسمها بيان وفاة!؟.
وتتتالى القصص, وأنا كالراكب ظله, كلما توهمت الهروب منه, تعثرت فيه, حيث كل كلمة كراجمة الصواريخ, تختلط تحت نيران قصفها كل الخطوط, خط نار القلب مع خط نار الحرب, فأي حواجز أعبر, وخلف أي المتاريس أختبئ, ورايات الحكايات تعتلي خنادق يقظتي ونومي, وكل الطرق منها وإليها, والكلمات كمناقير الكواسر في عيوني, وسوط على ظهري جديد, وماء ثلج يتحول في حلقي دماً, وحلم فيء بكر في الزمن المستعمل, لا تصلح العواطف البكر للتواريخ معادة التدوير, أيها القلب الفائض بما فيه من ألم, واهم من يظن أن الجحيم فقط في السماء!؟.
كنت في “دوما”, وكان يجب أن لا أذهب, أن لا أرى, أن لا أقرأ, لأن المعرفة في الحرب.. وجع الوجع, ومشاعر غضب معبأة في زجاجات معتمة, وبسملة فراق, وقوارب مقلوبة على ظهرها على الشواطئ المقفرة, كتحية وداع من مبتور يدين, في لحظة ما قبل الرحيل, لصيف يبدو وكأنه لن يعود!.
كنت في “دوما”, وكان يجب أن لا أكون, ولكني كنت, ولذلك عن الرب هناك بحثت, تراه العتب, أم تراه التمني بأن مملكة السماء فوق السياسة, ولذلك وحده لن يغفر ولن يصالح, وأشهق في سري باسم الرب كشهقة الولادة وأكتمل, وأتعوذ بحب الوطن من الشيطان, والموت, والخسارة, وأرى في الحكايات بشارة, حقاً بشارة.. بأن النصر لابد آت.