الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

تولستوي

حسن حميد

منذ بدايات تعلقي بأديب روسيا الكبير تولستوي (1828 ـ 1910)، وأنا أحاول فحص حياته وكتابته وأحلامه لأرى وأعرف لماذا ترك هذا الأمير، الإقطاعي، صاحب النيافة والجاه كل ميراثه من الغنى وتبع الكتابة التي لم تكن لتشكل وجهاً من وجوه المكانة أو الحضور في روسيا. ولماذا لم يجمع صفة الجاه والغنى وصفة الإبداع معاً مثلما فعل غوته! هل كان يعاني من انفصام بين رؤيتين واحدة تجاه الغنى وأخرى تجاه الفقر! ولم أصل إلى نتيجة طوال سنوات، مع أن هذا السؤال راح يجول في رأسي كلما وقفت على تفصيل جديد يخصّ حياة تولستوي، ولكنني وبعد مجالسة طويلة لسيرته وجدت أن ما نظم حياته يتمثل في المحبة.
لقد أحب الناس فجاء إليهم ليعيش حياتهم الملأى بأمرين اثنين، هما: الأسئلة والأحلام، وهذا ما يجعلها حياة موّارة غنية، وهذا في المقابل ما يجعل حياة الغنى فاقدة للأسئلة والأحلام، وإن عرفتهما، فهما لا يعبران عن الحياة وجمالها، ولا عن الفرح ونشوره! تساءلت لماذا انخرط تولستوي في الجيش ليدافع عن روسيا في حرب ضروس، أقل مخاوفها أن تطوى روحه فتتوقف حياته وأحلامه، وهو الأمير، الغني القادر على تخطي كأس الحرب، ولم أجد من إجابة سوى محبته لقيمة وطنية هي المشي في ظلال راية البلاد مع المدافعين عنها! وتساءلت لماذا كتب روايته الخالدة (الحرب والسلم) عن الحرب التي دارت عام 1812 وما كابده الشعب الروسي من ويلات، وما اشتقه من بطولات نادرة، فلم تكن لي من إجابة سوى محبته لبلاده، ونحن نعرف جميعاً أن بعض الأغنياء يعدون جيوبهم أوطاناً لهم. وتساءلت لماذا طوّف بالحضارات الإنسانية، ومنها حضارة العرب، فلم أجد من إجابة سوى محبته للبعد الإنساني واحترام الآخر الشريك في بناء العالم. وتساءلت لماذا تخلّى عن أملاكه، وميراث أبيه، فوزّع كل ما كان له من أطيان وعقارات وأموال على الفلاحين الذين كانوا ينادونه بالأمير، فلم أجد من إجابة سوى محبته للناس، وشغفه أن يصنع مثالاً للنبل والإخاء يظل شاهداً أزلياً يتحدث عنه الناس، ومرجعيةً لاجمة لحمّى المال وسطوته!
وتساءلت، وقد عرفت الكثير من المعلومات عن حياة تولستوي، أكان مدركاً أنه سيصير أديب روسيا المثال، ويتخطى بأدبه وموهبته مغريات المال وجواذبه، وأن الآخرين الذين يعرفونه لن يندموا على معرفته! وبماذا استعان حتى أيّد ما عزم عليه من تخلٍ عن أملاكه، وأمواله! أهو الأدب الذي دار حول البعد الاجتماعي الروسي فكشف عن مستبطناته ليس في أوقات السلم وحدها، وإنما في أوقات الحرب أيضاً، أم هي المحبة للمكان، والزمان، والناس.. والمعنى الوطني!
وهل المحبة هي التي كانت السبب في نسج علاقات على غاية من الأهمية والرفعة مع أدباء وفنانين ونقاد كانوا مريدين لتولستوي، فراح يزورهم في بيوتهم مرة ليثني على ما أبدعوه، ويزورهم مرة في مكاتب عملهم ويتعرف إليهم ليقف على شواغلهم وأحلامهم، ويقول لهم وبالروح الأبوية، إن أهل الأدب والفن أسرة واحدة، ولا قوة جامعة لهم سوى هذه الموادات! ترى أكان تولستوي يراهم بعين المحبة أنهم سيمثلون الآداب والفنون الروسية، أمثال تشايكوفسكي، وتشيخوف الذي حبر فوقه قصصه التي أذهلت العالم وأدهشته!
وهل كانت المحبة هي السبب الذي جعله يخرج من بيته خروج العارف أن لا عودة له إليه في وقتٍ عمَّ الثلج فيه أرجاء روسيا كلها، وصار البرد فيه عدواً لكل إنسان بلا دثار، بلا بيت، بلا دفء! بلى كانت المحبة وستبقى.. بانية الجميل الباقي!
Hasanhamid55@yahoo.com