دراساتصحيفة البعث

خطة إسقاط الدولة السورية بدأت عام 2006 وإشارة الحرب أطلقتها مشيخة قطر بالتواطؤ مع الغرب

د. مازن المغربي

استلهمت الكاتبة والصحفية الألمانية كارين لويكفلد فكرة كتابها “سورية بين العتمة والنور” من لقاء ضم مجموعة متنورة من عرب وأجانب سبق لهم ارتياد الجامعة الأمريكية في بيروت، وارتبطوا بشكل أو بآخر بسورية. وكان الحديث حينها عن الاضطرابات، وعن إنشاء الحدود التي قسمت منطقة شرق البحر المتوسط إلى دول وفق النموذج الأوروبي دون مراعاة الواقع الديموغرافي والتنوع الثقافي للمنطقة، وتعززت فكرة الكتاب أيضاً من خلال الحديث عن صورة التقطها ضابط ألماني لمجموعة من ضحايا الترحيل التركي الذي أودى بحياة أكثر من مليون من الأرمن، في نبوءة بأن الترحيل والتهجير جزء لا ينفصم من تاريخ منطقة الهلال الخصيب. صدر الكتاب تحت عنوان SYRIEN ZWISHEN SCHATTEN UND LICHT، وتم نشره في مدينة زيوريخ في سويسرا، عام 2016، عن دار نشر روتبونكت بعد أن رفضت دور النشر في ألمانيا طباعة الكتاب بسبب تقديمه صورة عن الأوضاع في سورية مختلفة بشكل جذري عما روج له الإعلام المرتبط بالشركات والمؤسسات المالية الكبرى.

المقدمة

في مقدمة الكتاب استعرضت الكاتبة تاريخ المنطقة وضمنتها بتفاصيل قد يجهلها الكثيرون، إذ لم تكن فكرة استثمار قدرات العشائر العربية في الحرب الأوروبية حكراً على البريطانيين، فقد كان لدى استخبارات الجيش الألماني أيضاً مشروع يجمع بين قتال الجيوش على الجبهة وتحريض انتفاضة الشعب في عمق أراضي الدولة العثمانية، كما لو أن الكاتبة تلمح إلى الدور الأوروبي المستمر في التلاعب بشعوب المنطقة واستغلال الطموحات المشروعة بطريقة لا تخدم سوى مصالح الدول الكبرى.

وتضمن هذا الاستعراض التاريخي إشارة واضحة إلى التباين بين مشاريع كل من فرنسا وبريطانيا والحركة الصهيونية من جهة، ومشروع أبناء الحسين بن علي من جهة ثانية. كان لدى الطرف الأول تصورات واضحة معززة بالخرائط وبدراسات اقتصادية وديموغرافية ومائية، في حين افتقدت مشاريع عائلة حاكم الحجاز إلى هذا ولم تعتمد سوى على الدعم البريطاني.

وبعد المقدمة التاريخية العامة، انتقلت الكاتبة إلى استعراض التاريخ الشخصي لبعض الشخصيات المعروفة لدى المجتمع السوري، حيث كانت عملية الاختيار أكثر من موفقة فهي غطت كل مكونات اللوحة التي تعكس صورة المجتمع السوري. كانت البداية مع الدكتور يوسف الصايغ الخبير الاقتصادي الذي ولد في فلسطين لأب سوري من حمص وأم فلسطينية من البصة في الجليل. تقول الكاتبة: ترعرع يوسف الصايغ في جبل العرب وحصل على الجنسية اللبنانية عام 1958، وتروي عنه ذكريات الطفولة البائسة على الصعيد الاقتصادي، وعادات الفلاحين، وتعايش أبناء الطوائف المختلفة، وزيارة دمشق والقدس دون الاضطرار إلى عبور أي حدود، لتنتقل بعدها للحديث عن الثورة في جبل العرب التي اندلعت عام 1925 ضد الاحتلال الفرنسي، والذي رد بوحشية عبر إرسال الطائرات لتقصف القرى الآمنة، ما اضطرار العائلة للفرار من القرية والانتقال إلى البصة في فلسطين. انضم الصايغ إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي وناضل ضد الانتداب الفرنسي الأمر الذي تسبب بزجه في السجن حتى عام 1949؛ وبعد ذلك سخر حياته للقضية الفلسطينية حتى وفاته في بيروت 2004. بحسب الكاتبة، تختصر سيرة الرجل تاريخ منطقة شرق البحر المتوسط فهو سوري وفلسطيني ولبناني في آن واحد، لذا لم يعترف أبداً في قرارة نفسه بالحدود السياسية التي خطها المستعمر.

 

“فرق تسد”

في الفصل الثاني الذي حمل عنوان “فرق تسد” تناولت الصحفية مرحلة الانتداب الفرنسي، وبينت كيف خالفت فرنسا نصوص صك الانتداب الذي نص على مساعدة سورية على التحول إلى دولة حديثة، لكن النتيجة الفعلية كانت مشاريع متتالية لتقسيم سورية على أسس طائفية، وهو ما زرع بذور المشاكل التي واجهت سورية لاحقاً. حينها عملت فرنسا على استغلال حالة الفقر، كما حاولت الاعتماد على خدمات بعض الزعماء المحليين ووضعت نظاماً خاصاً بالعشائر البدوية. وهنا ركزت الكاتبة على دور النخب الثقافية والسياسية التي تبنت توجها علمانيا وديمقراطيا يتعارض مع محاولات فرنسا تهميش أصحاب الفكر التحرري. واستعرضت مرحلة الانتداب الفرنسي وممارساته الفظيعة، وتناولت النشاط السياسي الوطني وثورة عام 1925 ومشاركة النساء فيها، كما قدمت وصفاً وافياً لردة فعل القوات الفرنسية وبشكل خاص قصف مدينة دمشق باستخدام الطائرات، ما دفع لظهور نشاط سياسي محموم وبروز الكتلة الوطنية التي ضمت نخبة ثقافية من المدن الكبرى. هنا أشارت الكاتبة إلى نقطة بالغة الأهمية تتعلق بعجز أو عزوف تلك النخبة عن إقامة علاقات مع الأرياف ومع المناطق النائية ومناطق البدو التي حرمت من الخدمات الأساسية، الأمر الذي ولد شرخاً عميقاً كانت له تداعيات مهمة على مسار التطور السياسي في البلاد.

استعرضت الكاتبة بالتفصيل محاولة سلطة الانتداب تشكيل دولة سورية لا تمتلك سلطة إدارية مركزية قوية من خلال منح الاستقلال الإداري لمحافظات اللاذقية والسويداء ولواء اسكندرون، وضع قانون خاص بالبادية والعشائر. وركزت الكاتبة على حقيقة انقسام الكتلة الوطنية بين تيارين كانا في حقيقة الأمر امتداداً لمشروعين متناقضين، تزعم التيار الأول جميل مردم بك الذي دعا إلى تعاون كامل مع المشروع الفرنسي، في حين تزعم الدكتور عبد الرحمن الشهبندر المشروع البريطاني الداعي إلى إقامة سورية الكبرى التي تضم سورية ولبنان ولواء اسكندرون وفلسطين في ظل العرش الهاشمي.

كان من الواضح سعة اطلاع الكاتبة على تفاصيل مرحلة الانتداب ومحاولة الحكومات الفرنسية المتتالية التهرب من الجلاء عن سورية إلى حد أوردت فيه معلومات قد تكون غير معروفة للكثير من السوريين، حيث روت بأسلوب شيق ما قام به الرئيس فارس الخوري في الاجتماع التأسيسي لمنظمة الأمم المتحدة، وكتبت: “شهد الاجتماع التأسيسي للأمم المتحدة واقعة تعبر بشكل واضح عن اعتزاز السوريين بأنفسهم. كان فارس الخوري هو ممثل البلاد، وهو أول مسيحي يتبوأ منصب رئيس الوزراء في سابقة لم تتكرر. جلس الخوري على المقعد المخصص لممثل فرنسا، فطلب منه الأخير إخلاء المقعد، لكن الخوري تجاهله ودقق في ساعته. فقد الفرنسي أعصابه واستشاط غضباً لكن الخوري لم يأبه له وتابع التحديق في ساعته، وبعد مرور خمسة وعشرين دقيقة خاطبه الخوري قائلاً: أنت لم تتحمل جلوسي في مكانك 25 دقيقة، وبلادك فرنسا تحتل بلادي منذ خمسة وعشرين سنة.. ألم يحن الوقت لتسحبوا جيوشكم؟”.

صوفيا سعادة

خصصت الكاتبة فصلاً كاملاً لصوفيا ابنة أنطون سعادة مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي، وأفردت العديد من الصفحات لسرد مسيرة حياة شخص استثنائي امتلك تصوراً سياسياً واضحاً، حيث عرضت الكاتبة صورة إنسانية لأنطون سعادة الأب الحنون، ولرجل السياسة الذي دمج حياته الشخصية بحياة الحزب الذي أسسه.

في هذا الفصل أوردت الكاتبة إجابة صوفيا سعادة الحائزة على شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية من الولايات المتحدة على سؤال طرحته عليها، في صيف عام 2015، عن الحرب الدائرة في سورية، وكانت إجابتها: “إن أسباب هذا الصراع المستمر مرتبط بالمخططات الاقتصادية والسياسية للقوى الإمبريالية الكبرى منذ القرن التاسع عشر، فبعد عمليات التصنيع احتاجت أوروبا لأسواق جديدة لتعزيز السوق الأوروبية وتوسيعها. هذا ما دفع أوروبا إلى الحربين العالميتين. نحن هنا في العالم الثالث.. كان احتلال البلدان في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أكثر سهولة من فتح أسواق جديدة في أوروبا. ثم دخلت الولايات المتحدة اللعبة، وما نراه اليوم هو نتيجة التنافس الشامل على الأسواق”.

تناولت الكاتبة هنا نقطتين رافقتا بروز الكيان السياسي الجديد في سورية، أولاهما البحث عن هوية وطنية وثانيهما التدخلات الخارجية. لم يكن هناك قبل الانتداب الفرنسي دولة تحمل اسم سورية التي عاشت على أرضها مجموعات متنوعة من السكان. كان المفترض قيام دولة الانتداب بإعداد سورية لتتحول إلى دولة عصرية على مبدأ الدولة – الأمة، لكن مفهوم الأمة كان شديد الالتباس، حيث نادى البعض بالمرجعية الإسلامية في مواجهة العروبة، ووجد آخرون الحل في قيام كيان سياسي فيدرالي يضم كل أراضي الهلال الخصيب. وبالتالي لم يتم بذل أي جهد لبناء هوية وطنية مرتبطة بالكيان السوري المعترف به دولياً. أما التدخلات الدولية فكانت حاضرة منذ لحظة إعلان إنهاء الانتداب الفرنسي، وتجلى بشكل واضح عام 1949 نتيجة رفض الرئيس شكري القوتلي مشروع مد أنابيب النفط (التابلاين)، وكانت النتيجة الإطاحة به بانقلاب عسكري رعته وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية.

استمرت الكاتبة في نهجها المتمثل باستعراض التاريخ العام لسورية، والسير الشخصية لمجموعة من سكان منطقة شرق البحر المتوسط، وخصصت فصلاً كاملاً للدكتور جورج جبور الأمر الذي يدل على أنها اتبعت في عملية اختيار الأشخاص أسلوبا يعكس بشكل غير مباشر تنوع وثراء مكونات المجتمع السوري والتعددية السياسية التي كانت سائدة في مرحلة تأسيس الكيان السوري الحديث، فـصوفيا سعادة كانت من الحزب السوري القومي الاجتماعي، أما الدكتور جبور فقد كان بعثياً خصص الكثير من نشاطه الفكري للقضية الفلسطينية.

الدور المركزي للجيش العربي السوري

من جديد انتقلت الكاتبة إلى التاريخ العام، وأفردت حيزاً للحديث عن الدور المركزي الذي لعبه الجيش العربي السوري في الحياة السياسية نتيجة لواقع أنه القوة المنظمة الأكبر في مجتمع لم يعرف التمايز الطبقي.

ثم تناولت تجربة حزب البعث العربي الاشتراكي بزعامة أكرم الحوراني الذي، بدوره، تخلى عن فكرة الوصول إلى السلطة عن طريق الانتخابات، وشارك بنشاط في الانقلاب العسكري الأول وفي سلسلة الانقلابات الناجحة والفاشلة التي تلته. كانت قيادة الجيش هي مركز السلطة الحقيقية فهي التي أوصلت أديب الشيشكلي إلى السلطة التي ظل فيها إلى أن أجبره تمرد عسكري على الاستقالة. وتلا ذلك عهد يطيب للبعض وصفه بالديمقراطية مع أن السلطة الفعلية ظلت بين أيدي كبار الضباط والكتل العسكرية، واستمر الوضع على هذا المنوال حيث تم فصم عرى الوحدة نتيجة انقلاب عسكري تلته سلسلة من الانقلابات وصولاً إلى تسلم حزب البعث السلطة عام 1963. تبنى حزب البعث موقفاً حاسماً من مسألة دور الجيش كما يتبين من مذكرة القيادة القطرية حول أزمة الثالث والعشرين من شباط التي أوردتها الكاتبة: “يجب أن نفكر بشكل مكثف ومتمعن بدور الجيش، وثمة سبب بسيط لهذا، فالجيش – مثل كل جيش – هو الحاجز الدفاعي وهو نظام الحكم الذي يسعى لتحقيق الأهداف، و يحمينا من المفاجآت الداخلية والخارجية وعند الضرورة “.

كما ركزت الكاتبة في استعراضها التاريخي على الخلاف بين التوجهات العلمانية التي أعلنها حزب البعث وبين مختلف التيارات الإسلامية المتشددة التي انتشرت في الأرياف وفي مدينتي حلب وحماة التي حصلت على دعم مالي وسياسي من بلدان الخليج. وهذه المقارنة ضرورية لأنها تعطينا مثالا عن التباين بين ما رفع من شعارات تقدمية وواقع ترسخ وتصاعد الفكر الظلامي بين صفوف فئات واسعة من السكان.

ثم تناولت الكاتبة الظروف التي سبقت عدوان حزيران 1967 نظراً لاستمرار تداعيات هذا الحدث على الرغم من مرور أكثر من خمسين عاماً نتيجة تعنت “إسرائيل” وداعميها على رفض تطبيق القرارات التي صدرت عن مجلس الأمن بالاستناد إلى شرعة الأمم المتحدة التي تحرم الاستيلاء على أراضي الغير عن طريق القوة، كما أشارت الكاتبة إلى نقطة هامة فيما يتعلق بموقف دول أوروبا الغربية التي تعاملت مع الصراع في الشرق الأوسط من منظور الحرب الباردة الأمر الذي دفع تلك البلدان إلى التغاضي عن الاعتداءات “الإسرائيلية” المستمرة التي سبقت عدوان حزيران مع التركيز على أهمية موضوع المياه وتحويل مجرى نهر الأردن .

رأت الكاتبة أن الدول العربية، وبشكل خاص سورية تبنت بعد حرب 1948 عقيدة دفاعية تعتمد على بناء تحصينات يصعب اختراقها غطت كل الجبهة باستثناء منطقة وعرة كانت بمثابة تحصينات طبيعية يستحيل اختراقها، لكن التقدم التقني جعل المستحيل ممكناً، وقامت الجرافات الألمانية الضخمة بتمهيد الطريق أمام الدبابات التي تمكنت من الالتفاف على التحصينات السورية. ورد في الكتاب: “تضافرت عوامل الاستفزاز وسوء التقدير والمعلومات الكاذبة وضعف الاتصالات وصار بإمكان الجنود الإسرائيليين احتلال القنيطرة عاصمة الجولان”.

كان هناك تباين بين موقف القيادة السياسية المتهورة ، وموقف وزير الدفاع الذي لعب دورا مهما في إنقاذ قسم كبير من سلاح الجو. وجاءت أحداث أيلول في الأردن لتزيد من عمق الخلاف بين معسكرين وانتهى الأمر في السادس عشر من تشرين الثاني 1970 بوصول الرئيس الراحل حافظ الأسد إلى الحكم.

ومن جديد، وفي اطار الحديث عن نزوح أهالي الجولان، انتقلت الكاتبة إلى السيرة الشخصية لمواطن سوري هو علي بوري – شركسي من الجولان- عاش تجربة النزوح ورأى في سورية وطنه الجديد الذي خدمه بكل إخلاص. أظهر علي بوري، الرجل الثمانيني، روحاً وطنياً سامية وتعلقاً بسورية وطنه. سرد الكثير عن حياته في الجولان الذي شبه مناخها وأرضها الخصبة ببلاد القفقاس التي جاء منها أجداده. ونجد في حكاية حياته صورة من تاريخ وطن، فهو كان شاهد عيان على جريمة اقتحام مبنى البرلمان من قبل القوات الفرنسية. إن حكايته عن الحياة في الجولان كانت بمثابة قصيدة، حياة هنيئة استمرت حتى الخامس من حزيران 1967 عندما اضطر هو وعائلته وجيرانه إلى النزوح.

تضمن العرض تقديم صورة مثيرة للاهتمام لتجربة النزوح مع التركيز على أهمية الجولان ووجود قرارات صادرة عن مجلس الأمن تنص على هويته السورية .

ونوهت الكاتبة بصمود السوريين الذين بقوا في قراهم في الجولان المحتل وكيف تقوم الدولة بدعمهم من خلال استيراد محصول التفاح، وسمحت بنقل المحصول بواسطة شاحنات تحمل لوحات الأمم المتحدة ويقودها سائقون من كينيا تنحصر مهمتهم في نقل صناديق التفاح مسافة لا تتجاوز ثلاثمائة متر. وتبدو مهارة الكاتبة واضحة من خلال تلميحاتها غير المباشرة. كما يمكن أن نقرأ في السطور التي خصصتها للكتابة عن سيطرة الجماعات المسلحة على المنطقة الفاصلة بين القوات السورية والإسرائيلية، وقيامهم بانتزاع سيارات دوريات قوات الفصل الدولية، الأمر الذي يفترض أنه يمثل تحديا حقيقيا لهيبة المنظمة الدولية، لكن وسائل الإعلام الدولية تجاهلت الموضوع بشكل كامل ولم يبادر مجلس الأمن لاتخاذ أي إجراء جدي.

خصصت الكاتبة فصلاً كاملاً عن مرحلة الرئيس الراحل حافظ الأسد، وكتبت عن البيئة البسيطة التي نشأ فيها وسيرة حياته والتحاقه بالكلية العسكرية. واستعرضت محطات متعددة من حياته. ويبدو واضحاً تقدير الكاتبة الكبير للرئيس حافظ الأسد بوصفه سياسيا واقعيا سعى لمقاربة مشاكل بلاده بأسلوب مختلف حمل معه الاستقرار السياسي بعد سنوات طويلة من الاضطرابات. وقدمت الكاتبة عرضاً مفعما بالإعجاب عن السنوات العشرين الأولى التي تلت الحركة التصحيحية وبدا واضحاً سعة اطلاع الكاتبة فيما يتعلق بتطور الوضع الاقتصادي في سورية، وأشارت إلى بعض مصادر الخلل التي أدت لاحقاً إلى كبح فورة التقدم.

 

الحرفيون في السوق المستقيم

خصصت الكاتبة فصلا حول بعض البائعين والحرفيين في السوق المستقيم الممتد من باب شرقي حتى باب الجابية وكعادتها مهدت لموضوعها باستعراض تاريخ السوق الذي يعكس ثراء تاريخ مدينة دمشق وتنوع مكوناتها.

كان بائع “الأنتيكا” الشخص الذي بدأت الكاتبة هذا الفصل بسرد سيرته الشخصية والمهنية وتأثره بالأحداث العامة، وذكرت تفاصيل من تاريخ المدينة قد تكون مجهولة للكثيرين مثل قصة المأذنة البيضاء قرب الكنيسة المريمية المجاورة للقوس الروماني، والتي تم تشييدها نتيجة لاتفاق قادة الجيش الإسلامي وزعماء المدينة على الدخول إلى المدينة سلمياً. وبدا واضحاً تأثر حياة الرجل بالأزمة التي أدت إلى فقد زبائنه من الأوروبيين. بعدها انتقلت الكاتبة لتروي سيرة حياة صانع زجاج تقليدي يعتمد في عمله على تقنية عمرها آلاف السنين بالإضافة إلى تمكنه من استخلاص عبير الياسمين بطريقة تقليدية.

ثم جاء دور حلاق مسيحي، ثم بائع خضار قرب باب الجابية، ثم بسام صاحب دكان بسيط، ثم سيرة حياة غسان خوري، صاحب صالة عرض للفنون الجميلة، الذي تأثرت حياته بالأزمة بسبب تراجع عدد السواح كما اضطرت ابنته إلى مغادرة بيتها في الضواحي وعادت للسكن في دار أهلها. بعدها عرضت الكاتبة باختصار وبأسلوب مكثف معاناة سكان المدينة القديمة من قذائف العصابات المسلحة التي استهدفت المنطقة بشكل مقصود. وطبعاً لا يمكن أن تكتمل صورة دمشق دون المرور على سوق المهن اليدوية ولم تنس الإشارة إلى موضوع الجفاف الذي غير وجه المدينة التي كانت ذات يوم جنة الله على أرضه.

ولكي تكتمل فسيفساء الشعب السوري كان لا بد من أن يتضمن الكتاب شخصية فلسطينية ووقع الاختيار على بدر الدجاني، وهو فلسطيني من القدس يعمل في سوق المهن اليدوية ويقلد المنحوتات واللقى الأثرية ومن خلال الحديث معه يكتشف القارئ أن التماثيل التي كانت تزين مدخل متحف حلب لا تعدو أن تكون نسخا مقلدة لأن التماثيل الأصلية التي عثر عليها عالم الآثار الألماني فون أوبنهايم نقلت إلى متحف برلين ودمرت نتيجة لغارات الحلفاء.

من المعروف أن العديد من أبناء المغرب العربي جاؤوا إلى سورية واستقروا فيها، وفي دمشق كما هو الحال في القدس يوجد حي للمغاربة. ومحمد الطوين سوري من أصل جزائري يعمل في المشغولات النحاسية، ولم يفت الكاتبة تخصيص بعض السطور للأمير عبد القادر الجزائري الذي استقر في دمشق وتوفي فيها.

واكتملت الصورة بلقاء مع خطاط كردي دمشقي من عائلة آل رشي المعروفة، وتلا ذلك عرض سريع لتاريخ المكون الكردي في سورية، وأشارت إلى واقع اندماج أكراد المدن الكبرى في الحياة العامة وبروزهم في قيادات الحركة الوطنية ووصول العديد من أبنائهم إلى أعلى المناصب بما في ذلك رئاسة الجمهورية. وعند مقاربة وضع الأكراد لا يمكن إلا التوقف عند سيرة الشيخ أحمد كفتارو الذي شغل منصب مفتي الجمهورية سنوات طويلة وكان من دعاة الحوار بين الأديان وقد عرضت الكاتبة سيرته بشكل يدل على مدى اطلاعها على تفاصيل الشأن السوري، واستشهدت بما رواه الصحافي البريطاني إيان وليامز عن رد كفتارو عا=لى سؤال حول عدد المسيحيين في سورية حيث أجاب: “يمثل المسيحيون نسبة مائة بالمائة من السوريين! وأنا بدوري مسيحي ولا يوجد ما يفرقنا، وهذه هي رسالة القرآن الحقيقية التي تدعو كل مسلم للإيمان بيسوع المسيح في المقام الأول”.

مشروع “عناة”

انتقلت الكاتبة إلى فصل جديد خصصته لمشروع “عناة” الذي أسسته السيدة هايكه فيبر الألمانية التي عشقت التراث ورفضت مغادرة دمشق التي احتضنتها منذ أكثر من ثلاثين عاماً. تعيش السيدة هايكه في دار عربية تحتوي على كل السمات التقليدية: المدخل الضيق الطويل الذي يحملك إلى بحرة الضياء في أرض الديار، والليوان، والبحرة الصغيرة وشجرة النارنج والياسمينة المتدلية. تتحدث هايكة اللغة العربية بطلاقة بلهجة فلسطينية على الرغم من تمسكها القوي بانتمائها إلى سورية، وهي تعتبر مرجعا في تاريخ تراث منطقة بلاد الشام، حيث تمكنت من إطلاق مشروع مميز قام على فكرة المحافظة على تراث التطريز والنسج التقليدي ومنح العديد من النساء فرصة عمل وهن في بيوتهن. وتمكن المشروع في فترة صعوده من تشغيل ألف امرأة من مختلف مناطق سورية. حرصت هايكة على نوعية الأعمال المنفذة وتمكنت من تحقيق سمعة عالمية وجذبت زبائن من قمة المجتمع في سورية وفي الخارج بما في ذلك بعض أفراد العائلات المالكة في أوروبا. شرحت السيدة الفكرة التي دفعتها إلى تأسيس مشروع “عناة”. كانت البداية خلال طفولتها في ألمانيا وهي تراقب جدتها تمارس التطريز. تعلمت منها ومارست التطريز كهواية، ثم جرفها النشاط السياسي في صفوف الطلبة وتعاطفت مع القضية الفلسطينية وتزوجت من مناضل فلسطيني عرف تجربة الاعتقال في السجون الإسرائيلية، وعاشت برفقته في لبنان إلى أن اضطرت لمغادرة بيروت بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، واستقرت في سورية التي صارت وطنها الجديد. عندما تتحدث عن التراث والمشغولات اليدوية التقليدية تأخذك إلى عالم مليء بالأساطير والرموز، تحدثك بالتفصيل عن مزايا أنماط التطريز المنتشرة في سورية ولديها مراجع مذهلة عن التراث الفلسطيني الذي اهتمت بالمحافظة عليه وخصته بكتاب من تأليفها سيكون متاحاً قريباً باللغة العربية.

الاستمرارية والتحديث

تلا ذلك فصل مخصص لعملية انتقال السلطة بعد وفاة الرئيس حافظ الأسد، وهنا أيضاً برهنت الكاتبة عن عمق معرفتها بالواقع السوري وتحدثت بشيء من التفصيل عن المرحلة الجديدة التي يمكن التعبير عنها بأنها استمرارية للنظام القائم لكن بروح جديدة. وهنا استعرضت الكاتبة محطات متتالية من مسيرة التحديث التي تحدث عنها الرئيس بشار الأسد في خطاب القسم ودعوته لكل المواطنين للمساهمة في الشأن العام بروح الفريق. وتحدثت بشيء من التفصيل عن الانفتاح باتجاه أوروبا وعن برنامج التطوير والتحديث مع الاتحاد الأوروبي. وسلطت الضوء على جهود الحكومة في بناء جسور تواصل مع السوريين المغتربين في شتى بقاع الأرض.

وتحدثت عن إلغاء حالة الطوارئ وعن الروح الجديدة التي ظهرت وعبرت عن نفسها بالمنتديات السياسية، ونقلت بأسلوب شيق وقائع المؤتمر القطري لحزب البعث العربي الاشتراكي الذي عقد في شهر حزيران 2005.

انتقلت الكاتبة بعد ذلك لاستعراض العمليات الإرهابية التي بدأت باستهداف رموز الدولة اعتباراً من عام 2003، وتتالي المؤشرات على وجود أطراف خارجية متورطة في عملية التقليل من هيبة الدولة بهدف بث روح قتالية بين صفوف جماعة الإخوان المسلمين المحظورة. وتطرقت الكاتبة إلى محاولات السفارات الغربية وممثلي الاتحاد الأوروبي التدخل في الشأن الداخلي السوري الأمر الذي رفضته الدولة السورية، وعرضت الكاتبة التدهور التدريجي في العلاقات بين سورية وبين دول الاتحاد الأوروبي التي توهمت بإمكانية احتواء سورية ودفعها للتخلي عن سياستها المستقلة. وكان من الواضح احتضان العواصم الغربية لحركة معارضة ضمت خليطا غير متجانس من جماعة الإخوان المسلمين ومن مسؤولين سابقين وبعض قدامى الشيوعيين. وبمهارة تنقلت الكاتبة بين تصوير حالة الرخاء النسبية في المدن الكبرى وبين معاناة سكان المناطق الشرقية التي تعرضت لمواسم متتالية من الجفاف أجبرت أكثر من مليوني شخص على مغادرة مناطقهم سعياً خلف فرصة عمل في أحزمة البؤس المحيطة بالمدن الكبرى وقاربت مشكلة الضغط الكبير الذي نتج عن تدفق ملايين اللاجئين العراقيين وربطت بين مختلف تلك العوامل التي أدت إلى تدهور الوضع المعيشي لشرائح واسعة من السوريين.

عرضت الكاتبة حالة الاقتصاد السوري الواعدة عام 2010، والتي دفعت منظمة التجارة العالمية للإقرار بالتقدم الاقتصادي في سورية، متوقعة صعودها عام 2015 إلى المرتبة الخامسة بين اقتصاديات البلدان العربية. لكن لم يكن واردا السماح لبلد يتبع نهجاً مستقلاً امتلاك القدرة على تحقيق نمو اقتصادي خارج إطار ما تحدده المؤسسات المالية الدولية، وبالتالي لم يكن هناك مجال لتفادي المواجهة التي توفرت كل الظروف الموضوعية لوقوعها.

ولخصت الكاتبة السياسة الخارجية للرئيس بشار الأسد بجملة بسيطة هي “تأمين البلاد وحماية سيادتها من خلال طرح إستراتيجية البحار الخمسة التي عكست البعد الاستراتيجي في تفكير الرئيس السوري”.

وعرضت الكاتبة بشكل موفق التعارض بين مشروعين طموحين مرتبطين بالطاقة: مشروع قطري يهدف إلى تخفيف تكاليف نقل الغاز القطري إلى أوروبا بهدف الحد من اعتماد أوروبا على الغاز الروسي، ومشروع آخر طموح يخدم مصالح سورية وروسيا وإيران، وكان رفض الدولة السورية للمشروع القطري بمثابة إشارة لشن حرب غير مسبوقة ضد الدولة السورية.

قامت الكاتبة باستعراض تفصيلي لجملة الإصلاحات التي شهدتها سورية، والتي سعت إلى ترجمة ما ورد في خطاب القسم وتحويله إلى إجراءات انعكست بشكل ملموس على حياة المواطنين، الأمر الذي رفع من شعبية القيادة السورية. وأشارت الكاتبة إلى أن وثائق سربها موقع ويكيليكس كشفت أن خطة إسقاط الحكم في سورية بدأت منذ عام 2006، بعدما تبين لبلدان المعسكر الغربي إصرار القيادة السورية على التمسك بقرارها المستقل. كما خصصت الكاتبة عدة صفحات لتحليل تطور العلاقة بين سورية والاتحاد الأوروبي، ابتداء من مرحلة التقارب ثم التعاون ثم طرح مشروع الشراكة، وفكرة اتحاد المتوسط التي طرحها الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي وصولاً إلى توتر العلاقات ثم القطيعة الديبلوماسية وتبني أوروبا مجموعة المرتزقة الذي ادعوا أنهم يمثلون المعارضة السورية.

عرضت الكاتبة توالي الأحداث ومحاولات الدولة استيعاب الاستياء الشعبي لكن تدخل السفارات الغربية والحملات الإعلامية التي شنتها القنوات المرتبطة ببلدان الخليج بينت أن ما حدث في سورية كان تطبيقاً لخطة معدة مسبقة استغلت وجود العديد من الثغرات وعملت على بذر الشقاق بين أبناء الوطن الواحد بهدف شل الدولة السورية.

في المحصلة نجحت لويكفلد إلى حد كبير في تقديم بانوراما شيقة للمجتمع السوري، وقدمت عرضاً سلسا لتاريخ الدولة السورية الحديثة وتمكنت من صياغة التحدي الذي يواجه المجتمع السوري بين المحافظة على “النور” المرافق للمجتمع التعددي المتصالح مع نفسه، وبين “العتمة” التي تريد فرض لون واحد على مجتمع لا يمكن إلا أن يكون متعدد الألوان.

كارين لويكفلد خبيرة ألمانية في قضايا الشرق الأوسط، ومتابعة للشأن السوري. درست علم الإناسة والتاريخ والإسلام والعلوم السياسية، وعملت منذ عام 2000 مراسلة صحفية لشؤون الشرق الأوسط معتمدة في دمشق.