ثقافةصحيفة البعث

سبينوزا.. حريّته سبقت عصره

 

كان باروخ سبينوزا، المفكر الهولندي في القرن السابع عشر، من بين الفلاسفة الأكثر غموضاً (والأسطوريين) في الفكر الغربي. مؤيدٌ بليغ للمجتمع الديمقراطي العلماني، وأقوى المدافعين عن الحريّة والتسامح في أوائل العصر الحديث ومن أقواله “ما لا يمكن منعه يجب السماح به” وهذا المبدأ هو الأهم في شؤون الإيمان والقرار الحرّ، وهو الفضيلة التي لا غنى عنها للتطور والتعايش.
تمّ نشر عمله “الرسالة السياسية-اللاهوتية” بشكل سري عام 1670 (قال عنه أحد منتقديه العديدين “كتاب ألّف في الجحيم من قبل الشيطان نفسه”) والهدف النهائي من كتابه هذا مكرّس في العنوان الفرعي للكتاب وفي حجّة فصله الأخير، لإظهار أن “حرية الفلسفة” لا يمكن منحها فقط “دون الإضرار بالسلام العام والتقوى وحق السيادة، ولكن أيضاً يجب منحها إذا كانت هذه الحقوق مصونة”.
عندما أدرك سبينوزا أن الجمهورية الهولندية، ومقاطعته على وجه الخصوص، تفقد ليبراليتها وتسامحها نسبيّاً، قام بتأليف الكتاب. كان يخشى من تنامي النفوذ السياسي المتزايد وضيق الأفق في الكنيسة الإصلاحية الهولندية، واستعداد السلطات المدنية لاسترضاء الدعاة من خلال العمل ضد الأعمال التي اعتبروها “غير دينية وساذجة وتخريبية” فقد اقتربت فترة “الحريّة الحقيقية” التي استمرت ما يقرب من عقدين من الزمن، من نهايتها. كتاب مليء بالغضب ونداء علني للجمهورية الهولندية بعدم خيانة المبادئ السياسية والقانونية والدينية التي جعلت ازدهارها ممكناً.
تعامل سبينوزا في هذا الكتاب مع مسألة الحريّة الفرديّة من وجهات نظر متعددة. في البداية، هناك مسألة الاعتقاد، وخاصة تسامح الدولة مع معتقدات مواطنيها. يجادل سبينوزا بأن جميع الأفراد يجب أن يكونوا أحراراً تماماً في اعتقاداتهم ومعتقداتهم، من خلال الحق والواقع. “من المستحيل أن يكون العقل خاضعاً تماماً لسيطرة شخص آخر، لأنه لا يمكن لأحد أن ينقل إلى شخص آخر حقه الطبيعي للتعبير بحرية وأن يشكل حكمه الخاص به في أي أمر مهما كان، ولا يمكن إجباره على القيام بذلك”. ولهذا السبب فإن أي جهد من جانب الحكومة للحكم على معتقدات المواطنين وآرائهم سوف يفشل، وسيساعد في النهاية على تقويض سلطتها، ومن المؤكد أن السيادة حرة في محاولة الحد مما يعتقده الناس، ولكن نتيجة هذه السياسة، كما يتنبأ سبينوزا، ستكون فقط لخلق الاستياء والمعارضة لحكمها.
يمكن القول إن تسامح الدولة مع الإيمان الفردي ليس مسألة صعبة. وكما يشير سبينوزا “من المستحيل” أن يكون عقل الشخص تحت سيطرة شخص آخر، وهذه حقيقة ضرورية يجب على أي حكومة قبولها. والحالة الأكثر صعوبة (الاختبار الحقيقي لالتزام الحكومة بالتسامح) تتعلق بحريّة المواطنين في التعبير عن تلك المعتقدات، سواء في الكلام أو في الكتابة. وهنا يبحر سبينوزا مبتعداً بفكره عن معاصريه ليقول “سيحضر أي محاولة في الكومنولث لإجبار الرجال على الكلام فقط كما هو مقرر من قبل الحاكم على الرغم من آرائهم المختلفة والمتعارضة.. أكثر الحكومات استبداداً من تحرم الفرد من حرية التعبير والتواصل مع الآخرين بما يفكر فيه، والحكومة المعتدلة هي التي تمنح فيها هذه الحرية لكل رجل”.
لدى سبينوزا عدد من الحجج الدامغة لحرية التعبير. يعتمد المرء على الحق الطبيعي (أو القوة الطبيعية) للمواطنين في التحدث كما يرغبون، وكذلك على الحقيقة الواضحة (كما في حالة الاعتقاد في حد ذاته) سيكون من قبيل هزيمة الذات بالنسبة لأي حكومة محاولة تقييد تلك الحرية. بغض النظر عن القوانين التي يتم سنّها ضدّ الكلام ووسائل التعبير الأخرى، سيستمر المواطنون في قول ما يؤمنون به “لأنهم يستطيعون ذلك” وسوف يفعلون ذلك سراً في ظلّ حكومة الاستبداد. تقود القوانين، من وجهة نظر سبينوزا، غير المتسامحة في النهاية إلى الغضب والانتقام والفتنة. إن محاولة فرضها تشكل “خطراً كبيراً على الدولة”. (من المؤكد أن هذا هو الدرس المستفاد من التاريخ الحديث، حيث نشأ التمرد الهولندي في الإجراءات القمعية التي فرضها التاج الإسباني على أراضيه الشمالية في القرن السادس عشر).
ويناقش سبينوزا حرية التعبير على أسس نفعية- وهو أمر ضروري لاكتشاف الحقيقة والتقدم الاقتصادي ونمو الإبداع- فبدون سوق مفتوح للأفكار يتم خنق العلم والفلسفة وغيرها من التخصصات إلى الأضرار التكنولوجية والضريبية والجمالية للمجتمع. وكما يقول سبينوزا “هذه الحريّة (للتعبير عن أفكار المرء) هي الأهمية الأولى في تعزيز العلوم والفنون، لأن هؤلاء هم فقط الذين يكون حكمهم حراً وغير متحيز ويمكنهم تحقيق النجاح في هذه المجالات”.
بالنسبة إلى سبينوزا، لا يجب أن يكون هناك تجريم للأفكار ولابد من دعم حرية الفلسفة من أجل “كومنولث” صحي وآمن وسلمي وتقدّم فكري ومادي.
ويتابع سبينوزا ليرسم الخط، وإن كان ضبابيّاً بعض الشيء، بين الأفكار والعمل. ويصرّ على أن الحكومة لديها كل الحق في تحريم أنواع معينة من الأعمال. وباعتباره الطرف المسؤول عن الرفاهية العامة، يجب أن يتمتع الملك بسلطة مطلقة وحصرية لمراقبة وتشريع ما قد يفعله الناس أو لا يمارسونه.
في الفقرة ما قبل الأخيرة من الكتاب، يصرّ سبينوزا على أن “الدولة لا تستطيع أن تتبع مساراً أكثر أماناً من النظر إلى التقوى والدين على اعتبار أنها تقتصر على ممارسة الصدقة والتعامل فقط.
قبل جون ستيوارت ميل، أدرك سبينوزا أن حرية التعبير غير المقيدة هي في مصلحة الدولة. وفي هذا العالم بعد أحداث أيلول، هناك إغراء للاعتقاد بأن “الأمن الداخلي” مضمون بشكل أفضل من خلال قمع حريات معينة من ممارستهم الحرة. وهذا يشمل نزعة القضاة لتفسير القوانين القائمة بطرق مقيدة وجهود مشروعة من قبل المشرعين لخلق قيود جديدة. وقد تبين سبينوزا الخطر في مثل هذا التفكير منذ زمن بعيد، سواء بالنسبة للأفراد أو للنظام السياسي ككل. ورأى أنه لا توجد حاجة إلى إجراء مقايضة بين الرفاه السياسي والاجتماعي وحرية التعبير، على العكس، يعتمد الأول على الأخير.
سامر الخيّر