الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

عنب دوماني (8)

د. نضال  الصالح

وما إنْ يمسك مهيار بالشوق والصبابة في عيني ميسون، حتى يرد على سؤال الطبيب قائلاً: “نعم، عروسان”، ثم يلتفت جهة ميسون، فتفهم إيماءته، فتقول بدورها: “نعم، عروسان”، فيتابع الطبيب: “بالرفاء والبنين”، فيعود مهيار إلى جهة ميسون، ويشير بأصابع كفيه الاثنتين، وهو يعني أن عشرة من البنين والبنات، فتعاند ميسون جرحها المضمد حديثاً، وتبتسم ملء روحها، ثم تهرع بكفها إلى بطنها، فتمسح فوقه، وثمة في عينيها يبرق نداء رهيف إلى مهيار أن يترفّق بها، لأنّ جسدها الصغير لا يحتمل هذا العدد كله من الأولاد.

قذائف الضباع في الغوطة الشرقية تتابع انهمارها فوق دمشق، في المزة ستة وثمانين، وساحة الأمويين، وجسر السيد الرئيس، وقريباً من فندق الداما روز، والمزة فيلات شرقية، وغير مكان آخر، وتغصّ المشافي بالشهداء والجرحى من المدنيين من النساء والرجال والأطفال، وميسون، وهي تتلمس بطنها بكفّ راعشة، تتابع حلم يقظتها الذي تتقلّب على ريش نعامه الرخيم، وبعينين يختلط في أبيضهما أحمر الآلام التي تكابد بزرقة الآمال بغد مختلف عن هذه الأيام التي يئن الناس تحت وطأتها منذ نحو سبع من السنوات تمضيان جيئة وذهاباً بين مهيار والطبيب الذي قال موجهاً كلامه لمهيار وهو يهمّ بمغادرة الغرفة: “يمكنها مغادرة المستشفى الآن، ومراجعتنا بعد ثلاثة أيام”، وتابع وهو يبتسم غامزاً بطرف عينه: “ولكن انتبها”، وكان يقصد ألا يقربا شجرة الشغف قبل أن يلتئم الجرح تماماً.

في الطريق إلى بيت ميسون كان سائق سيارة الأجرة ينتقل بين محطة إذاعية وأخرى وهو يتابع الأخبار كما يفعل محلّل سياسي يريد معرفة كلّ ما يجري أولاً بأول، ولم تكد شاهدته تتوقف عن متابعة لهاثها بين المحطات بينما هو يتسلم المبلغ الذي دفع به مهيار إليه، حتى سمع الثلاثة المذيع وهو يقول: “جاءنا الآن ما يلي: التوصل إلى اتفاق بين الدولة ومسلحي جيش الإسلام في الغوطة الشرقية يقضي بخروج المسلحين من دوما بعد تسليمهم أسلحتهم الثقيلة والمتوسطة”، فترقرق عينا السائق بالدموع وهو يقول بصوت يسمعه مهيار وتسمعه ميسون: “الحمد لله، الحمد لله يا رب”، ثم يتابع هامساً لنفسه: “أخيراً سأعود إلى دوما”. وما تكاد الكلمة، دوما، تبلغ أذني مهيار، حتى يمعن النظر في وجه السائق، ثم يهتف: “أستاذ عبد الرحيم!”، ثم يحيطه بكلتا ذراعيه، ثمّ يقول: “سائق سيارة يا أستاذ!”، فيردّ الأستاذ: “أكرم من انتظار المعونات في مركز الإيواء يا بنيّ”، ثمّ يستعيد مهيار صورة أستاذه في مدرسة دوما الثانوية المختلطة، الذي لم يكن أحد في دوما كلّها يضارعه في قيمتين معاً: العلم في اختصاصه والأناقة في حديثه وملبسه، والذي لم تكد الضباع تبدأ نهشها في لحم دوما حتى كان من أوائل فرائسها لأنه كان ينبه الطلاب والطالبات إلى النأي بأنفسهم عما يترصد دوما، بل الغوطة كلّها، بل سورية كلها، من الدم والموت والدمار، لأنّ ثمّة دولاً وممالك وأجهزة استخبارات تتربّص بها شرّاً… (يتبع).