دراساتصحيفة البعث

العلاقات الروسية الأمريكية.. إلى أين؟

د. سليم بركات

بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، لم تعد العلاقات الدولية مبنية على سياسة القطبين المهيمنين على الشؤون الدولية، بل أصبحت تحت ظل هيمنة قطب الواحد، هو القطب الأمريكي، دون وجود أي ندّ له، وهذا بدوره أدى إلى إعادة صياغة العلاقات الدولية لتتوافق مع الأحادية القطبية، بما في ذلك العلاقات الروسية الأمريكية، وقد جاءت صياغة هذه العلاقات بوجهات نظر متعددة، منها أن روسيا وريثة الاتحاد السوفييتي السابق بما له وبما عليه، وبما أنها دولة أوروبية فعليها انتهاج سياسة جديدة نحو الغرب، وبمواصفات الشراكة، لا بمواصفات القوة المضادة، ومنها التحول في العلاقات الروسية الأمريكية من حالة الصراع إلى حالة التعاون، وهو تحول امتد من تسعينيات القرن المنصرم إلى بدايات القرن الحالي، لينتقل فيما بعد من حالة التعاون إلى حالة التنافس.

كانت روسيا في العهد السوفييتي مشغولة بالايديولوجيا، بينما كان الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية مشغولاً بالبراغماتية، وجاءت القيادة الروسية الجديدة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي لتظهر بمظهر الليبرالية، وهي تعرض نفسها على أنها الشريك لهذا الغرب؛ ومن منطلق أنها دولة أوروبية اعتقدت أن مثل هذه الشراكة ستمكنها من تجاوز أزمتها الاقتصادية التي سببها سباق التسلح مع الولايات المتحدة الأمريكية، وأدت إلى تفتيت قوة عظمى، ومع إدراك روسيا للدور الأمريكي المخادع الذي يرغب لها دور التابع، بدأت القيادة الروسية تفتش عن دور مستقل لها، فكان التحول المركز على إقامة علاقات خارجية روسية جديدة؛ وعلى الرغم من اختلاف وجهات النظر السياسية في الداخل الروسي، فقد كان هناك إجماع على إقامة سلطة مركزية قوية تقف في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية التي تنظر بعداء إلى روسيا، كما تنظر إلى سقوط الاتحاد السوفييتي على أنه سقوط لروسيا، واستسلام تجلى بخسارتها للحرب الباردة؛ ولاسيما بعد أن أعلن جورج بوش الأب أمام الأمم المتحدة أن عصراً جديداً تقوده الولايات المتحدة الأمريكية دون منازع قد بدأ، وهو إعلان وصف فيه روسيا بأن ليس لها الإمكانية للتحدث عن دور عالمي، فهي لم تعد قوة كبرى يعتدّ بها.

لم تكتف أمريكا بالدعايات المغرضة تجاه روسيا، بل عمدت إلى إضعافها عبر دعمها للمقاتلين الشيشان للانفصال عن روسيا، وعبر تطويقها لها في آسيا الوسطى، وبحر قزوين، فضلاً عن رفضها أن تكون شريكاً لها، وعلى الرغم من كل محاولات التقارب الروسي مع الغرب، استمرت السياسة الأمريكية في عدائها تجاه روسيا، وهذا ما أصبح واضحاً وجلياً، بعد وصول الرئيس فلاديمير بوتين إلى السلطة، وهو وصول تميز بسياسة مستقلة تأخذ المصالح القومية الروسية كأولوية، ولاسيما بعد تخلي أمريكا عن وعودها بالمساعدة الاقتصادية، وبعد قرار حلف الناتو بالتوسع شرقاً حتى الوصول إلى حدود روسيا، الأمر الذي عدته روسيا عاملاً مهدداً لأمنها القومي.

هذا التحول في العلاقات الروسية الأمريكية، مكن روسيا من الاعتماد على الذات، لتصبح قوة كبرى مؤثرة، بعد سبات استمر حتى بداية القرن الواحد والعشرين، ولا نبالغ إذا قلنا إن من أسباب هذا التحول هو نوعية القيادة في كلا البلدين، ففي الجانب الأمريكي وصلت إلى البيت الأبيض إدارة من أكثر الإدارات الأمريكية تطرفاً وعدوانيةً ليس تجاه روسيا فقط، وإنما تجاه العالم أيضاً.. إدارة عملت على مبدأ، إما أن تكون معنا، وإما أنت ضدنا. وفي روسيا وصلت إلى سدّة الرئاسة قيادة من نمط مختلف لم ينسلخ عن الصورة السوفييتية السابقة التي رسمت دوراً كبيراً في قيادة العالم.. قيادة لا تنظر للعلاقات الدولية من وجهة نظر مبدئية فقط، وإنما من وجهة نظر واقعية متكونة من طبيعة الحراك السياسي الدولي، الأمر الذي أدى إلى تنافر القيادتين، ليصبح الصراع هو الطاغي على مجمل العلاقات بين الدولتين.

نظرت الولايات المتحدة الأمريكية إلى روسيا الاتحادية بعين الريبة بعد وصول الرئيس فلاديمير بوتين إلى السلطة، وبعد اكتشاف الطموحات الروسية بالعودة لتأدية دور القوة المؤثرة في النظام العالمي الجديد، ولم تترك أمريكا وسيلة إلّا واستخدمتها لهذه الغاية، بدءاً من سياسة العصا وانتهاء بسياسة التهديد والتطويق، عبر سياسة الإقناع بعدم جدوى هذه الطموحات التي قد تؤدي إلى تفكك روسيا، وهذا ما كان واضحاً من خلال التوسع في حلف الناتو لاحتواء روسيا من جهة أوروبا الشرقية، كما كان واضحاً من خلال برنامج الدرع الصاروخية الأمريكي المهدد لها، ومن خلال إلغاء المعاهدات الموقعة سابقاً مع الاتحاد السوفييتي واستبدالها بمنظومات إقليمية تحجّم دورها.

ولم تكتف أمريكا بذلك، بل وجهت لروسيا الانتقادات الجارحة، متهمة إياها المتاجرة بالسلاح، وبنقل التكنولوجيا الخاصة بأسلحة الدمار الشامل، ولاسيما في كوريا الديموقراطية وإيران، ومع كل هذا فقد قبلت روسيا التحدي، واستمرت في التصعيد في مواجهة أمريكا، وكان ذلك من خلال مسألتين: الأولى داخلية تجلّت بتأمين السيادة الكاملة وبالقضاء على فوضى القرار في الداخل الروسي، كما تجلّت بتجاوز الأزمة المالية من خلال اعتمادها على قطّاع الطاقة واستخدامه لخدمة الأهداف القومية، والثانية خارجية غايتها الحفاظ على حرية الحركة للمسرح الدولي، والتي تسمح لروسيا الحفاظ على مصالحها ومصالح حلفائها، أكان ذلك على مستوى الجوار الجغرافي، أم كان على مستوى العالم، وهذا يعني تحدي روسيا للنظام أحادي القطبية، لأنه يخلق موانع جيو – سياسية في مناطق جغرافية مختلفة توازن الضغوط الأمريكية على روسيا، وفي جوارها الجغرافي الذي يشكل أولوية أمنها القومي. حدث هذا في أوسيتيا الجنوبية، وفي أبخازيا، ثم عاد وتكرر في جزيرة القرم، وما زال يحدث من خلال وقوف روسيا إلى جانب سورية في مواجهة الإرهاب الذي يستهدفها، ما مكن روسيا لوجستياً من الوصول إلى المياه الدافئة على شواطئ البحر الأبيض المتوسط.

واجهت روسيا الاستراتيجية الأمريكية الرامية إلى احتوائها بالقدرة على التحرك العسكري المباشر لضمان مصالحها، فضلاً عن انسحابها من اتفاقيات كانت قد عقدت في أوقات سابقة؛ كما واجهتها في العديد من الملفات الساخنة والمؤثرة في احتدام الصراع الروسي الأمريكي، ومنها توسيع حلف شمال الأطلسي “الناتو” والذي سعت الولايات المتحدة إلى زيادة عدد أعضائه – بعد حل حلف وارسو – ليضم مجموعة من الدول التي كان الاتحاد السوفييتي يحتضنها، ومنها الدرع الصاروخي الأمريكي الذي عدّه الطرفان ذا علاقة مباشرة بالأمن القومي، ومنها القضية الجورجيّة المرتبطة بتوسيع حلف الأطلسي، والتي عدتها روسيا خطاً أحمراً لا يمكن تجاوزه، وأدى فيما بعد إلى احتدام الصراع بين روسيا وجورجيا، ومنها الملف النووي الإيراني الذي يشكّل من وجهة النظر الأمريكية أكبر التحديات التي لابد من التعامل معها على وجه السرعة، بينما لا ترى روسيا في هذا البرنامج ما يستدعي هذا التحدي، بل تراه سليماً وسلمياً.

بلغ التحدي الروسي الأمريكي ذروته من خلال الأزمة السورية وتطوراتها، وليس البحث في أعماق هذا التحدي بالأمر السهل، نظراً لسرعة الحراك الدولي، وتعقّد الملفات المشتركة، وطبيعة المتغيرات المتسارعة في تبني سياسة تستند إلى مزيج معقول من الدبلوماسية والاعتدال والشراكة. ومع كل آليات النفاق الأمريكية المتّبعة تجاه هذه الأزمة، ستبقى المؤثرة في مستقبل العلاقات الروسية الأمريكية، طالما روسيا ماضية قدماً نحو الارتقاء بدورها الإقليمي والدولي، وهي تسير ضمن مبادئها المعلنة، والمتضمنة الاعتراف بأولوية المبادئ الأساسية للقانون الدولي، وفي أن يكون العالم متعدد الأقطاب لا عالم القطب الواحد، ولما كانت روسيا لا تريد المواجهة مع أي دولة أخرى، وليس لديها النيّة بعزل نفسها، كونها تتوخى علاقات ودّية مع كل دول العالم، فإن الأمر يستدعي امتلاك القوة التي تمكنها من الردع، ولاسيما في الأقاليم التي توجد لها فيها مصالح، وبينها وبين روسيا علاقات ودّية وحميمية، كما هو الحال بالنسبة للعلاقة السورية الروسية الاستراتيجية.

الحضور الروسي الاستراتيجي العقلاني الفعّال على مستوى المنطقة والعالم أوجد المعضلة الكبرى أمام الاستراتيجية الأمريكية المؤسسة على التفرد والهيمنة، وهي حديّة المواجهة بين الاستراتيجية الروسية والاستراتيجية الأمريكية، ولاسيما فيما يخص حلول الأزمة السورية والموقف من الإرهاب الذي تدّعي أمريكا مواجهته، بينما هي في الحقيقة تديره، وهذه الحدّية في المواجهة جعلت العلاقات العلاقات الروسية الأمريكية أمام خيارات ثلاثة: الأول خيار التعاون المشترك، والثاني خيار الصراع، والثالث خيار عدم التصادم المؤسس على الكيدية والتعاون الأدنى، والذي يشكل مزيجاً من الخيارين السابقين، وهل نجانب الحقيقة إذا قلنا إن الخيار الثالث مازال هو الخيار السائد، لكنه مرشح للتصعيد كما هو ملاحظ على صعيد الواقع.

لقد قلب التحالف الروسي السوري الإيراني ضد الإرهاب الموازين الإقليمية والدولية التي يستند عليها النفاق الأمريكي، ومن يغرد في سربه، في مواجهة الإرهاب، كما قلب التواجد الروسي في سورية هذه الموازين أيضاً، بما فيها الموازين العسكرية، ولاسيما بعد محاولة أمريكا والقوى الإقليمية التابعة لها الاستئثار بالصراعات على الأرض السورية وإدارتها، وفي هذا السياق الواضح، يمكن رؤية التواجد العسكري الروسي في سورية، وفي إطار التحالف الروسي الإيراني السوري في مواجهة الإرهاب، على أنه يشكل موقعاً لا يبارى في التأثير على موازين القوى في المشرق العربي والمنطقة، وعلى أنه أمر حتمي وضروري لسورية ولباقي محور المقاومة المستهدف امبريالياً، وصهيونياً، ورجعياً.. وهو تواجد يضمن لسورية الانتصار على الإرهاب الذي يستهدفها أرضاً وشعباً، كما يضمن حلاً سياسياً للأزمة السورية بعيداً عن احتكار القوى الإقليمية المعادية لسورية، وهذا لا يكون إلا بعد تعزيل الإرهاب عن الأرض السورية وترك الحرية للشعب السوري في أن يقرر مصيره بإرادته.