الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

حنين

عبد الكريم النّاعم
كنّا في سفْرة خارج المدينة، ومررْنا بجسر عتيق محبوك من حجارة تلك الأرض، وتشعّ منه القَدامة، فتوقّفتُ عند هذا الحنين للعديد من المفردات الموصوفة بأنّها قديمة، وأخذتْني التّداعيات..
لا أزعم أنّ الجميع يحملون ذات الأحاسيس بما فيها من رقّة، وشجوّ، بل أميل إلى أنّ هذا قد يكون خاصّا، بدرجة ما، بمن وُهبوا رهافة فنيّة عالية في التذوّق، هي مساحة مشترَكة بين المُبدع وبين المتلقّي.
ما سرّ هذا الحنين الإبداعي؟! هل هو الحنين للينابيع الأولى، قبل أن تلوّثها مخلّفات المسافات البعيدة؟!
هل هو نزوع لزمن كانت البهجة متوفّرة فيه بمقدار أكثر من زمننا هذا الذي يلاحقنا حتى في تتابع أنفاسنا المتقطّعة؟!
هل هو الرغبة في بدء جديد لنتلافى فيه العثرات والأخطاء؟!
هل في ذلك شيء من روح كلّ ما هو جميل مبثوث في المفردات الطريّة الآسرة؟!
مازلنا نحنّ للدّور القديمة بفسحاتها المنفتحة على السماء، وبأناقتها، وبزريعتها، نحنّ لها وهي مبنيّة من (اللِّبْن) الدافئ، الحنون.
لماذا تشدّنا الأواني الخشبيّة، مزخرفة أو غير مزخرَفَة؟! هل تحمل رغم اليباس الذي صارتْه شيئاً من نداوة الاخضرار، والحياة الشجريّة الخاصّة؟!
خبر سمعْتُه منذ فترة قريبة يقول إنّ بعض أهل اليابان يخرجون أيام العطل إلى الغابات فيحتضنُون الأشجار لتفريغ الطاقات السلبيّة التي شحنتْهم بها الآلات المعدنيّة الصلبة التي لاحسّ فيها.
في بعض الصور المعروضة على الشاشات الصغيرة تظهر بعض الفرق الفولكلوريّة، عربيّة أو أجنبيّة بثيابها المزركَشة، الملونّة، المطرَّزة فتكاد الرّوح تهتف خذني إلى هناك.
قرأتُ قبل أكثر من أربعين عاما أن باحثاً غربيّاً قدّم رسالة دكتوراه في تطريز الثياب وتخريجها في مدينة حماه، فغبطتُ روحه، التي على اختلاف الدّيار والمقام والمشارب، انجذبت إلى الخفيّ والظاهر في تلك القُطب، والتطريزات.
الغناء الفولكلوري في وطننا الكبير، والذي يسمع فيه المتذوّق جملا لحنيّة متشابهة تمتدّ من المشرق إلى المغرب.. هذا الفولكلور في بعض مقاطعه لا يجد سامعه وسيلة إلاّ البكاء العلنيّ، أو الخفيّ، أو ما يقرب من ذلك.
حدّثني المرحوم عازف العود الشهير منير بشير، وقد نشرتُ شيئا ممّا سمعتُه في حينه،.. حدّثني أنّه أوّل ما ذهب إلى بريطانيا، واجتمع لسماعه في جلسة خاصّة بكبار الموسيقيّين والنقاد، فظنّ أنّه سيُذهلهم بأنّه يعزف مقطوعات غربيّة على آلة العود، وحين انتهى نظر إليهم، فوجد وجوههم لا أثر للانفعال فيها، وبادره أحدهم فقال له: “هذه بضاعتنا، فأين بضاعتكم”؟!، فتنبّه، وعاد إلى منابع الفولكلور العراقي، فأذهل، وأبدع.
تُرى إلى أين يذهب بنا عبيد المال والآلة الجالبة للذهب، وقد حوّلوا هذا الكوكب، بستان الله، إلى مكبّ للغازات السامة، وتوالف الأشياء، في البرّ والبحر والجوّ؟!
تُرى هل ينجح سكّان هذا الكوكب في الخروج من هذا المأزق، أم أنّ الأمر كما تقول إحدى الفلسفات الشرقيّة، أنّنا في الربع الأخير من دائرة المسار حيث يلتقي طرفا الدّائرة، ويُطاح بهذا النشء، ليبدأ نشْأ جديداً؟!
أيّا يكن الأمر فسنظلّ نحمل في أعماقنا ذلك الحنين.
Aaalnaem@gmail.com