ثقافةصحيفة البعث

أحياء على لائحة الانتظار

 

بصيرورة الاحتمالات، حينما يتربع الألم في عنجهية جرحه السري على عرش الأفئدة، جرح يأخذ الصد والرد بتردداته اللامتناهية الانعكاسات، الضائعة بين احتمالية (قد يعودوا، أو لا يعودوا..أحياء أم أموات). هم المخطوفون لا غير لايقين يستجلي صفاء الذاكرة لتعرف أين مستقرها في حصولها على أجوبة واضحة ترسمه لهم يوميات الحرب، وعلى غيرهم بشكل تنويعات مغيبة لهم في الذاكرة، مغيبة لنا في التماس خطوط بينة وواضحة لآلية النتائج المرافقة لحوادث اختطافهم. هؤلاء المغيبون الأحياء اللاأحياء، لاشيء يؤكد بقاءهم على سجلات وقيود الحياة سوى ذواكر نازفة ومستنزفة عاطفيا من أهاليهم وأصدقائهم الذين بقوا أسرى لحدس نبوءة رجوعهم أو عدمه، وجودهم أو منفاهم، أسرى في تبعية الركض اللاهث خلف سراب لمعرفة وجهة المخطوف والتعرف إليه في حال عودته، والتمحيص والبحث الملائم الذي لا يهدأ خلف الخاطف ومن يكون وما هي غايته والتي هي بالمطلق ليست عفيفة، سؤال راكض لا يتعب، يرافقه سوق واستجرار لمطارح الابتزاز الروحي والعاطفي والشعوري الذي يصنعه الخاطف لآل المخطوف ليقول لهم إني أنا الحرب، أنا شكلها العدمي، لا صيغة لي ولا عرف، لا دين لي ولا شريعة، لا هوية ولا انتماء، خياراتي واضحة أن أضع هذا المخطوف ودوائر صلاته ومجتمعه في مئوية درامية وألف ليلة وليلة من رعب مستدام، لأحصل على هدفي وهدفه آه من غاياته الدنيئة على من لا ذنب لهم ومن لا خيار ولا اختيار لوجودهم أمام هذه الحرب البشعة. الحرب المفتوحة أبوابها على سادية الظلم وألوان الإظلام القبيحة.
المخطوفون في هذه الحرب مفردة حيوية ليست فاعلة، حية لكنها ميتة، يهيمون مثل ملائكة نورانيين في فضاءات العتمة، وزنزانة الجهل، حتى يصيرون لقمة سائغة بين فكي وحش الموت المنتظر شعوريا، وبين هواجس الخوف التي يفرضها غيابهم، حائرين أمام تعدد العبثية وأشكالها التي تحمل وزرها لإقصاء الروح ولتفرض دمعها ومعالمها بين الصبر والحزن، وبين الأمل واليأس، بين الانتظار وبين فقدان الجدوى حتى من ساعات الزمن بمرورها الموجع والذي قد يبرق بين ثوانيها بارقة فرح بالعودة، العودة إليهم ولذويهم لضفاف الفرح والنجاة.
ليس الكلام عن المخطوف فقط إنما للخاطف أيضا أسماء مستجدة وكيد مبتكر يوميا، يمارس شهوة غريزته الوحشية، استشفاء وإرضاء لشهية الموت داخله، ليربت على كتفي الضحايا، بضحكة هزلية شامتة، تتسلى بالمخطوف وتمارس ساديتها عليه وهو أعزل حاملا قناديل ورصاصات وبنادق وذخيرة من الضغينة يشعل نارها متى أراد، ويطلق فوهتها ويصوبها على وجودهم وأعناقهم وألوانهم وصورهم التي تفتقد لأساميها ومعانيها تحت أمرة سيف الخاطف ومقصلة رهابه اللامتناهي في الزمان.
في استحضار سيناريوهات وصور الخاطف والمخطوفين يقودني حزني لهم وعليهم، على الجاني والمجني عليه في رحلة نحو المطلق المجهول في ارتحاله بهم وبنا، أستذكر فيها حالات وحالات عامة وخاصة، وأستذكر كعينة قريبة تمثل الكثير قصة صديقنا الشاعر السوري طلال سليم في حواريته وتجربته مع هذا الكابوس المرعب الذي وضعته الحرب والخاطفين في خضم تجربتها، وخاصة فيما عاش من تجربة اختطاف طفلتيه البريئتين وقتل زوجته وسوقهم إلى مقر دار الشيطان يوم سبت حزين، لم يدرك به الخاطفون حرمة الآباء الشعراء والأمهات الطاهرات، مستبيحا الأرض والعرض، بيوم اختاره الكون له ليعيش وتعيش تلك الطفلتان (لجين وحنين) اختباراً قاسياً قد لا يدركه عقل أو يتحمله جسد، والذي قد يقود الشرح والخوض بتفاصيله إلى الإصابة بالجنون، حيت كان هذا التوقيت والحدث يعتصرني بالألم، يبكيني كما أبكى الأب الشاعر طلال مرارا، وذلك عندما كنت أستذكر صورة الطفلتين والأب النبيل وحادثة الاختطاف، حتى أني لم أتجرأ لزيارتهم خوفا من أن تنزل دمعتي أمامه، حيث كنت رهينة التفكير بما حل بتلك الجميلتين، كيف ينمن، هل يأكلن، كيف تتم معاملتهما، هل هن بالفعل أحياء؟ هل حصل اليوم صديقي طلال على خبر يطمئن فؤاده ويروي حيرته عن تواجدهن؟. هل رن هاتفه، هل سيحررهن سجانهن. هل وهل وآلاف التساؤلات التي لا تعرف الإجابات.
لكن بعد عدة محاولات للأمل اليومي الحاضر في نفسي والذي كان عزائي وعزاؤه على ما كنت أظن، والذي لم يبق لي سواه لمنحهم القدرة على الاستمرار، وإمداد الجميلتين والأب والأهل بفرح غيبي يقول بأنهما عائدتان، وأن خاطفهم ستنهار قواه ويستسلم لحب ملائكي ويطلق سراحهم إلى الحياة.
كنت بحالة أرق خفي، لكن بالقابل أمل غيبي خفيف يزورني، تنهش ذاكرتي صور الأطفال المخطوفين الشبيهين والشبيهات، تمر عليّ نظرات الصغار التوسلية بعيني خاطفهم، يكبرون سنينا وأعواما في غيبوبة الموت اللا اختياري لحرب تثأر من أبرياء حيث لا حلول واضحة المعالم.
كنت مثلهم وهم مثلي معلقين على صليب الانتظار لحظة بلحظة تلوح الأسئلة كوميض من نار أبرده بدعاء نابع من قلبي لهم ولكل الأصدقاء، للمخطوفين وللخاطف بالفرج والعودة السالمة، والهداية تزور حنايا الخاطف ليتراجع عن فعلته. وكان بي نذر حيث رهنت نفسي بمهمة يومية تقوم بها أصابعي بإضاءة شمعة كانت ترسل نورها في غياهب الظلام، لأنتظر أن يسيل جسدها تجسدا وإشارة تقول أن رسالة الحب لـ (لجين وحنين) ولكل المخطوفين قد وصلت ولترد عليّ أحرار هم وعائدون رغما عن انف البشاعة والحرب والخاطفين.

رشا الصالح