الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

عنب دوماني (9)

د. نضال الصالح

توقفت السيارة أمام البناء الذي لا يتجاوز الطابقين، حيث تسكن أسرة ميسون، ولم يكد الاثنان، ميسون ومهيار، يغادران السيارة، وقبل أن يغلق مهيار بابها الخلفيّ، حتى بلغهما معاً صوت الأستاذ، السائق، موجهاً كلامه إلى مهيار وثمة بريق يومض في عينيه: “تريد شيئاً من دوما يا ابني؟”.
تسمّر الاثنان في المكان، وبينما كانت ميسون تضع ثقل جسدها كله، بيدها، على كتف مهيار، وهي تحاول رفع قدمها اليمين على الرصيف، قال مهيار بصوت مفعم بالضراعة: “أستاذ، أرجوك، ليس قبل يومين أو ثلاثة”، وقبل أن تغادر أيّ كلمة ممّا كان يزدحم بين شفتي الأستاذ، تابع قائلاً: “الجيش لن يسمح لك قبل أن تطمئن وحدات الهندسة إلى نظافة الشوارع والمباني من الألغام والمفخخات”، فسارع الأستاذ إلى القول: “الآن، الآن يا ابني. لا أستطيع صبراً”، ثمّ لنفسه: “كأنها دهر”، وكان يقصد السنوات السبع التي مضت من عمره بعيداً عن دوما.
هُرعت أم ميسون إلى ابنتها تحيطها بذراعيها وعيناها تومضان بغير سؤال عن الشاب المرافق لها وهو يسندها إلى كتفه، ويمسك بيدها، وعن الصفرة التي تلوّن وجهها، فسارعت ميسون إلى القول مبتسمة، ومحاولة تبديد ما كان يضطرم في عيني الأم من نار الأسئلة: “أغباني”، وبدلاً من أن تطفئ ميسون لظى النار التي كانت تشتعل في العينين سكبت بالكلمة الطلسم، كما بدت للأم، المزيد من الوقود فوقها. آنذاك انتبهت ميسون إلى أنّ أمها لم تستطع فك رموز الطلسم، وأنّ عينيها ما تزالان ترتبكان باللهيب فسارعت إلى القول: “مهيار”، وأكملت: “دوماني”، ففهمت الأم سرّ الطلسم، أغباني، النسيج الذي تشتهر نساء دوما بصناعته، والذي كانت الأم مولعة به حدّ الشغف.
في غرفة الضيوف الباذخة الأثاث، وبعد أن حكت ميسون لأمها الوحيدة في المنزل حكاية الشظية التي اخترقت خاصرتها، وحكاية مهيار الذي أصرّ على مرافقتها إلى المشفى، وعلى إيصالها إلى المنزل، قالت الأمّ: “أصيل يا ابني. الله يخليك لأهلك”، فهتفت حنجرة ميسون بصوت لا يسمعه سواها: “ولي أيضاً”.
وفي الغرفة نفسها، وبعد أن غادر مهيار، حدثت ميسون أمها عنه، فلم تجد الأم نفسها إلا وهي تسأل: “تحبينه؟”، ولم تجد ميسون نفسها إلا وهي تردد لنفسها وقد اضطرب خداها بلون الجوريّ: “أحبّه؟!”، ثمّ وهي تردّد ثلاثاً: “أعشقه، أعشقه، أعشقه”، ثمّ وهي تجيب بصوت تسمعه الأم: “ماما، مهيار زميلي في الدراسات العليا”، وبصوت يخفق قلبها به، ويسمعه وحده: “مهيار حبيبي”.
وفي الغرفة الضيقة الناحلة الأثاث، وبعد أن نضى مهيار عن جسده بعض آثار التعب الذي كابد ذلك الصباح، استسلم لنوم طويل، ثم سرعان ما نهض على صوت أمّه التي لم تكد ترى ما علق بثيابه من دماء حتى هرعت إليه تتلمس جسده من أقصاه إلى أقصاه: “مهيار، أمّي، فيك شي؟”. وفي الغرفة نفسها حكى مهيار لأمه عن ميسون، فلم تجد الأم نفسها إلا وهي تسأله: “تحبّها؟”…
(يتبع)